كانت القوارب المطاطية تسير بسرعة بطيئة في وسط مائي هائل في جولة سياحية نادرة طالت بعض جهات سد “بني هارون” العملاق غير بعيد عن القرارم قوقة، إحدى مدن ولاية ميلة. وبينما يقترب الجميع شيئا فشيئا من حاجز السد الهائل الذي يختزل لوحده 1.5 مليون م3 من الخرسانة المسلحة الملفوفة، كما ينفرد في الجزائر حاليا بسعة تخزين بلغت مليار م3 خلال شهر فيفري الفارط، تواصل الهواتف النقالة وأجهزة التصوير التقاط ما يخلد اللحظة وما ينشر الفرح في السرائر من صور وفيديوهات في جو ثابت ووسط مياه متحركة وثقيلة كما هي عادة مياه السدود. وشيئا فشيئا كان جسر وادي الديب الممتد فوق مياه السد بطول 700 مرت يتباعد، في غنج، وهو الدي يضمن تواتر الحركة على طريق قسنطينة - جيجل، إذ هو نفسه نتاج إنجاز السد الذي فرض تغيير، تحويل ونقل الكثير من هذه الطريق كما المنشآت والهياكل الأخرى التي كانت موجودة في منطقة بني هارون، المعروفة والتي تحضى منذ تمييه السد بمناخ جديد تطبعه الرطوبة العالية أساسا. “نحن هنا بأكبر سدود الجزائر على الإطلاق والثاني في إفريقيا بعد السد العالي بأسوان (مصر)” يصيح أحد الصيادين الشباب الحاضرين منتشيا ومبتهجا بالطبيعة الخلابة المحيطة للسد الذي يجمع مجراه 6 بلديات من ولاية ميلة، إلى جانب بلدية أخرى في ولاية قسنطينة، كما يلبي الآن طلبات المياه الشروب ل 15 بلدية بالولاية إلى جانب قسنطينة و4 ولايات أخرى. سد بني هارون مركب مائي عملاق وفي صورة المياه المخترقة من القوارب والمتراجعة إلى الوراء تراءت مراحل تجسيد هذا السد “زهرة الري الجزائري ومفخرته” على حد وصف الكثيرين والذي يرجع التفكير فيه إلى أزيد من 3 عقود من الزمن. كان التفكير أساسا موجها للسعي لإنجاز هذا السد العملاق عند تلاقي واديي الرمال والنجا بمنطقة بني هارون، يكون محوره استغلال مياه السهول العليا القسنطينية وتثمين المياه السطحية الكثيرة التي تذهب هباء إلى البحر في هذه المنطقة من شرق البلاد والتي تسجل إحدى أكبر نقاط التساقط في الجزائر. وقد انصب هذا المشروع تحديدا على إنجاز مركب مائي كامل متعدد الحلقات قلبه هو سد بني هارون بحوض مائي مساحته 72 ألف م2 مع سدود أخرى، بغية سد حاجيات 5 مليون نسمة من مياه الشرب إلى جانب سقي 30 ألف هكتار وذلك عبر ست ولايات هي ميلة، قسنطينة، أم البواقي، خنشلة، باتنةوجيجل. وبين الشروع في تشييد المشروع رسميا سنة 1988 وتدشين السد وبدء استغلال مياهه في شهر سبتمبر سنة 2007 لصالح ولايتي ميلة وقسنطينة، مراحل كثيرة ومتعددة، كما ارتبطت جديا بتحولات ومستجدات وطنية وإقليمية دولية كان لها الأثر الواضح في تعطل الأشغال وتعثرها وهو ما كان له بالغ الانعكاس على كلفة المشروع التي ارتفعت إلى ما يقارب أربعة (04) مليارات دولار في نهاية المطاف. 1989 سنة الانطلاقة... متاعب وتوقفات عددية بعد سنوات طويلة من التفكير، التصميم والدراسات التنقنية الطويلة تمّ رسميا تسجيل المشروع سنة 1988 بغلاف مالي قدره واحد مليار دج، منه غلاف بالعملة الصعبة موله كونسرتيوم من الصناديق العربية الخليجية وهي الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والإجتماعية -فاداس- والصندوق السعودي للتنمية والصندوق العربي للتنمية بأبو ظبي. وقد أسندت الأشغال بعدها لمؤسسة صينية -cwe- في إطار ما سمي آنذاك بالتعاون جنوب - جنوب، لتنطلق أخيرا سنة 1989 عبر الشروع في إنجاز الأعمال القاعدية للسد ومنها أنفاق التحويل المائي للمنشأة. ولكن الوكالة الوطنية للسدود رأت بعد مرور 3 سنوات على بدء الأعمال تواجد “العديد من النقائص التقنية واللوجيستيكية “ فتمّ -تبعا لذلك- بالتراضي إلغاء العقد الذي يربط الطرفين سنة 1991. ولم تكن الأوضاع في منطقة الخليج العربي في مطلع التسعينات ولاسيما منها حرب العراق الأولى بمعزل أيضا عن مشاكل تعرض لها المشروع في ميدان توفير التمويل بالعملة الصعبة كما لاحظ دلك متتبعون. مؤسسة دراغادوس الإسبانية.. تماطل دام 3 سنوات وقد تمّ إبرام عقد جديد لاستئناف الأعمال مع مؤسسة أخرى أجنبية هي دراغادوس الإسبانية، التي كان عليها الانطلاق في العمل في شهر فيفري من العام 1993. على أن هذه المؤسسة لم تبد أي أثر جدي للتحرك ومباشرة الأشغال متذرعة بمبرر الأوضاع الأمنية التي كانت تشهدها الجزائر في ذلك الوقت. ولم يكن ذلك إلا “إدعاء واهيا” حسب الملاحظين بدليل أن أشغال إنجاز سد معلق على وادي الذيب، فوق حوض السد نفسه، استمرت آنذاك بوتيرة عادية من طرف مؤسسة -جيكو- الإيطالية. وقد فرض إنجاز هذا الجسر الجميل بطول 700 متر على الطريق الوطني رقم 27 (جيجل - قسنطينة) مشروع السد ذاته باعتباره أحد الخيارات الواقعية لتحويل حركة المرور خارج حوض السد. الأعمال تستأنف سنة 1996.. بعد تهديد الحكومة ب “إلغاء العقد” وبعدما تحمل المشروع ثقل الظروف الأمنية غير المستقرة أنذاك تم استئناف الأشغال سنة 1996 مباشرة بعد تهديدات وجهها رئيس الحكومة آنذاك السيد أحمد أويحي، لدى زيارته لولاية ميلة في شهر أفريل من ذات السنة “بإلغاء العقد مع الطرف الإسباني إذا لم تستأنف الأعمال بسرعة”. وكان لذلك التهديد أثره الجدي والإيجابي إذ تمّ إيجاد الظروف المناسبة والعملية لاستئناف الأشغال خلال السداسي الثاني من نفس العام وتوقيف حالة سلبية من الجمود عاشها مشروع السد الأكبر في الجزائر. وبذلك عرفت المنشأة تحركا كبيرا وسريعا مكن من استلام المشروع أي الحاجز العملاق بطول 12 مترا خارج التربة وعرض 8 أمتارا إلى جانب ملحقات السد الأخرى سنة 2003 ما سمح بعدها بالشروع في تمييهه في شهر أوت من ذات السنة. وفي الخامس من شهر ماي من سنة 2004 دشّن رئيس الجمهورية السيد “عبد العزيز بوتفليقة” سد بني هارون، زهرة الري الجزائري، الذي يستهدف رفع طاقة التخزين الماضي آنذاك للجزائر من 5 إلى 6 مليار م3. ويومها دعا رئيس الجمهورية الساهرين علي المشروع إلى “التحلي بروح الواقعية وبعد النظر، الفاعلية، الدراية الجادة والأخذ بعين الاعتبار أهمية التكامل بين أجزاء المشروع الواحد مع رسم الأهداف والتوقعات بصفة عقلانية قبل خوض عملية الإنجاز”. وقد أعاب في هذا السياق رئيس الجمهورية، على المكلفين بالإنجاز وغيرهم من أصحاب المشاريع في الوطن “غياب النظرة التكاملية المنسجمة والمندمجة” مشيرا إلى تأخرات في هذا المجال. وكان ذلك إذنا جديا بضرورة إنعاش أشغال التحويل المائي لهذا المركب “إذ لا معنى لسد حتى ولو كان عملاقا بدون مرافق تحويل واستغلال مياهه” كما أكد مختصون. وكان ذلك كفيل بمباشرة أشغال المرحلة الأولى من التحويلات المائي وفي مقدمتها الشروع في إنجاز محطة ضخ عملاقة بدوار البيدي، قرب ميلة، أوكلت أشغالها لمجمع أشغال فرنسي - إسباني (دراغادوس - ألسطوم) وتتوفر على مضختين بقدرة هائلة (ضخ 23 م3 في الثانية) من المياه التي برمج تدفقها عبر قنوات ممتدة على مسافة 12 كلم نحو عين التين (على بعد 15 كلم من مدينة ميلة). وفي هذه المنطقة أيضا، تمّ شق نفق كبير بطول ستة (06) كيلومترا يربط حوض التوسع (bassin d'expansion) لعين التين بسعة 20000 م3 وكذا محطة المعالجة الأولي لهذا التحويل transfert ( بقدرة معالجة 86 ألف م3 من المياه ) بالسد الخزان barrage reservoire الذي جرى إنجازه قرب وادي العثمانية، من طرف مؤسسة تركية، متخصصة بمنسوب أقصى يناهز 33 مليون م3 بهدف تموين ولاية قسنطينةوجنوب ولاية ميلة،انطلاقا من محطة معالجة ثانية طاقتها معالجة 330 ألف م3 يوميا. وعاشت ولاية ميلة، في تلك الفترة حالة نشاط وحركية واسعة لازمت تنفيذ شتى عمليات إنجاز حلقات السد والتحويل، الأمر الذي جعل منها منطقة كثيفة التواجد للشركات الأجنبية القادمة من مختلف البلدان على مدى سنوات عديدة. تمييه السد وبروز تصدعات وتسربات لكن عمليات التمييه المتدرجة للمنشأة “حفاظا على رد فعل ملائم منها” أفرزت حسب مسؤولين بالسد، بعد سنتين من ذلك، وجود تصدعات في جهة الصخر اليسرى ما نجم عنها تسربات مائية استدعت صب كميات كبيرة من الخرسانة المسلحة واللجوء إلى خبرات لمعالجة الأمر وتفادي مخاطره. وقلّلت مصادر الوكالة الوطنية للسدود أنذاك من أهمية هذه المخاطر مؤكدة أن هذه التسربات “لا تؤثر بتاتا على هياكل السد”. سنة 2007... بوتفليقة يهدّد بغلق السد حفاظا على حياة المواطنين ولدى تدشينه محطة الضح العملاقة بدوار البيدي، غير بعيد عن ميلة، هدّد رئيس الجمهورية السيد “عبد العزيز بوتفليقة“ ب “غلق سد بني هارون إذا لم يتم التحكم في ظاهرة التسرب” إذ أنه كما قال “غير مستعد للتضحية بحياة المواطنين إذا بقي الحال على حاله”. وأشار رئيس الجمهورية يومها إلى أنه “لا يمكن إنفاق ثلاثة ملايير دولار على أشغال إنجاز السد منها ثلاثة ملايين دولار لمعالجة إشكالية التسرب، وفي الأخير تعجز الجهات المسؤولة عن معالجة هذه المشكلة”، مطالبا بالإسراع في “الإستعانة بأهم الخبرات الدولية” لمعالجة هذا الوضع، مبديا من جهة أخرى “عدم الرضا” واضحا عن محطة الضخ متسائلا عن كيفية التعامل معها في حالة إصابتها بعطل ما بعد عشر سنوات من الآن. وكان لهذه التحذيرات الصارمة من المسؤول الأول للبلاد، أثرها الإيجابي في معالجة هذه المشاكل التقنية خاصة بعد اللجوء لخبراء ذائعي الصيت من فرنسا، سويسرا وبلجيكا. وأكد هؤلاء الخبراء المعترف بكفاءتهم في مجال السدود، الجيو ميكانيك والجيولوجيا في تقرير لهم صدرت نتائجه خلال شهر ديسمبر 2007 بأن سد بني هارون بولاية ميلة، “لا يشكل أي خطر على السكان” وأن السد “مؤمن بصفة جيدة” تزويد قسنطينة و15 بلدية بميلة بمياه الشرب. وأدى تشغيل الجزء الأول من التحويل المائي لسد بني هارون، إلى تزويد ولاية قسنطينة، بأزيد من 300 ألف م3 يوميا من المياه لفائدة مدينة قسنطينة وعدد آخر من تجمعاتها مثل عين سمارة والخروب، إلى جانب 15 بلدية بولاية ميلة ( 5 منها بجنوب الولاية) بما يزيد عن 100 ألف م3 يوميا حسب مسيرو قطاع الموارد الري بالولاية. وتجرى حاليا دراسات بولاية ميلة، لضمان استفادة 17 بلدية أخرى بالولاية من مياه السد الذي يشهد حاليا تنفيذ مراحل أخرى من عملية تحويل مياهه لصالح ولايات أم البواقي، باتنة، خنشلةوجيجل. وتوشك حاليا أشغال إنجاز المرحلة الأولى من محيط السقي للتلاغمة ( 4447 هكتار)، على الانتهاء قبل نهاية العام الحالي كما تجرى من جهة أخرى عمليات لمد قنوات توصيل مياه الشرب بولاية أم البواقي في إطار تحويل مياه السد . فضاء جيد للصيد القاري وعلى صعيد آخر، نشطت خلال السنوات الأخيرة عمليات الصيد القاري بهذا الفضاء الرحب الذي هو سد بني هارون، الممتد على مسافة 25 كلم، وشهد السد منح رخص استغلال للصيد لفائدة 8 شباب من أجل الإنتفاع وتحصيل مورد رزق. وبرزت بالسد أسماك من نوع الشبوط بأنواعه وبأوزان بلغت حتى مستوى 40 كلغ للسمكة الواحدة وذلك أوقات قليلة بعد إجراء عمليات إستزراع قامت بها محطة الصيد لميلة. ويوفر السد حسب مدير هذه المحطة التابعة لمديرية الصيد والموارد الصيدية بجيجل، موارد رزق مباشرة وغير مباشرة في مجال الصيد القاري وهنالك حسبه مشاريع مبرمجة لإنجاز مرفأ للصيد يضمن خدمات كثيرة لصالح الصيادين وكذا مسمكة ووحدة لإنتاج مربعات الثلج وغيرها. كنز سياحي من الدرجة الأولى بالمنطقة ولكونه يوفر مع جسر وادي الذيب المار فوقه وكذا الطبيعة الجبلية المحيطة حوله، فضاء سياحيا من الدرجة الأولى يوجد سد بني هارون في قلب مقترحات عديدة قدمتها الولاية للمتعاملين الاقتصاديين من أجل تجسيد مشاريع سياحية، فندقية وترفيهية معتبرة تبدو “واعدة”، حسب المتتبعين ومن ذلك إنجاز حظائر للتسلية والتنزه تضمن حتى التنقل عبر السد بالقوارب وهناك حتى فكرة لإنجاز -تيليفيريك- يربط ضفتي السد كخدمة عمومية وسياحية جميلة. ومن شأن ذلك -طبعا- أن يدعم موقع المنطقة التي طالما عرفت بكونها، موقفا لا غنى عنه، على الطريق الوطني رقم 27 المؤدي للشواطئ الجيجلية. وتشتهر المنطقة بدكاكين بيع الشواء اللذيذ والذرة لصالح المصطافين الذين عادة ما يتسببون في خلق ضغوط كبيرة على حركة المرور. وتمّ مؤخرا بالقرارم قوقة، اختيار أرضية لاحتضان مشروع قاعدة للرياضات المائية كأصناف رياضية جديدة تدخل الميدان بفضل سد بني هارون ومياهه الممتدة. وهكذا تبدو الآفاق “واعدة ومبشرة بالخير” مع هذا السد العملاق الذي أكسب ميلة لقب “عاصمة المياه” ومنحها قدرات ومؤهلات جديدة تفتح لها مؤهلات خيرة في كثير من المجالات الإقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والترفيهية السياحية. وفيما لا تزال مياه السد تعكس مشاهد مراحل إنبعاث هذه المنشأة التي غيرت من ملامح ومناخات المنطقة كانت القوارب تقترب من يابسة ضفة السد، مشيرة إلى حلول الوقت لمغادرة رحلة باهرة فتحت الأنفس والأعين حول سد مرشح لمستقبل جميل.