تقبع، منذ ما يقارب السنتين، أهرامات الجيزة؛ على بعد نصف ساعة سير بالسيارة من مركز القاهرة، في انتظار كاميرات السياح وفضولهم لرؤية إحدى عجائب الدنيا السبع، متحسرة على تلك الأيام التي وصل فيها عدد حجاجها في السنة الواحدة إلى 14 مليون زائر. والسبب في هذه الحسرة أن مساحة أرض أخرى لا تمت للتراث البشري المغري للسياح بصلة، استطاعت أن تخطف "فلاشات" التصوير من قبور الفراعنة، وتتحول إلى قبلة لأصحاب الحناجر الثورية ومراسلي القنوات الفضائية وأيضا قبلة للسارحين بحثا عن لقمة العيش. هكذا تحول ميدان التحرير بالعاصمة المصرية إلى قبلة للتغيير وللتصوير ولأشياء أخرى. عندما كنا بصدد اجتياز كبري قصر النيل، سيرا على الأقدام؛ باتجاه ذلك الميدان الذي لا تبارح صوره فضائيات العالم، تتداخل في أذهاننا مشاهد الجدل السياسي الذي يؤثث يوميات المصريين منذ دخولهم قبل ما يقارب السنتين إلى ميدان التحرير، ذلك الميدان الذي لم يكن يعني لكاميرات العالم وأقلامه أي شيء خارج نطاق الجغرافيا، قبل أن يصل في مساء 25 شهر جانفي 2010، إلى صدر نشرات الأخبار وافتتاحيات الصحف. يعود بنا شريط الأحداث ليختزل على مسافة جسر، كرونولوجيا الثورة المصرية بوجوهها وتعقيداتها ورموزها أيضا، وهاهو أحد أهم رموزها (ميدان التحرير) يلوح لنا من بعيد مع بداية ليلة صاحية أخرى من ليالي الاعتراض على قرارات الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، الذي كان قبل أشهر قليلة واحدا من الواقفين على هذه الأرض التي ندخلها بسلام آمنين. تقترب الأصوات من مسامعنا كلما اقتربنا أكثر من حشود المعتصمين والفضوليين في الميدان، وتقترب معها الصورة التي كنا إلى زمن قريب نصبح ونمسي عليها في نشرات الأخبار، التي أعلمتنا قبل أن نتجه إلى الميدان أن جموع المصريين المناوئين لقرارات الرئيس المحسوب على التيار الإخواني، تحشد قواها تحت مسمى جبهة الإنقاذ المعارضة، من أجل مليونية "الإنذار الأخير" من المفترض أن تنتهي بالسير إلى القصر الرئاسي الثلاثاء (الزيارة كانت ليلة الاثنين). وهي الخطوة التي بوسعها أن تحول هذه البقعة من الأرض المصرية، التي ندخلها بحرص وشيء من الريبة، إلى معرض حيّ لوجوه المصريين على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم الاجتماعية. ولأن فضائيات العالم وصحفه ومنابره الإعلامية الأخرى ستعلك التفاصيل السياسية والجدلية في هذا الميدان وستجترها حد التخمة، ارتأينا أن ننقل صورة أخرى عن هذه القبلة الإعلامية التي تحولت مع الإعلان الدستوري الأخير إلى ميدان لأكل العيش على الطريقة المصرية.. ابتداء من الجنيه إلى العشرة آلاف دولار. الدستور المسلوق والبطاطا الحلوة! "قول ما تخفشي.. مرسي لازم يمشي"، "ارحل ارحل زي مبارك.. قل لي مين في الثورة اختارك"، "ارفع إيدك يلا فوق.. مرسي جاب دستور مسلوق".. تتداخل هذه الهتافات السياسية الصريحة، بهتافات تجارية صريحة أيضا داخل ميدان التحرير.. هتافات تروّج للبطاطا الحلوة، للفول السوداني واللبّ، للذرة المشوية وعلب الحلوى. وتروج أيضا للقبعات الملونة والأعلام المعروضة على بسطات إلى جانب عربات الشاي ومختلف المنتجات الاستهلاكية أمام الواقفين والعابرين. كما تجرأ بعض الشبان على صفّ كراسي بلاستيكية، حول طاولات شاي وقهوة، في مشهد يشبه إلى حد التطابق مشاهد المقاهي الشعبية في الأحياء المصرية العتيقة، وهي الظاهرة التي يقول بشأنها مصطفى (أحد الفاعلين في جبهة الإنقاذ المعارضة)"إنها لم تكن موجودة، بهذا الانتشار، مع بداية الثورة المصرية ولا حتى في زمن مليونيات الجمع التي أطاحت بالمجلس العسكري وأوصلت مرسي إلى كرسي الحكم". ويضيف مصطفى إن "تجرأ الباعة على عرض بضاعتهم وخدماتهم الاستهلاكية في ميدان التحرير، بهذا الشكل، انتعش بعد أن أعاد الإعلان الدستوري الأخير، مظاهر الاعتصام إلى الميدان في الأسبوعين الأخيرين". وفي هذا الصدد يؤكد لنا العم أحمد، مواطن مصري في العقد السادس من العمر، أن عربة الشاي والمكسرات التي يقف وراءها، وجدت لها مكانا في الميدان بعد رحلة عمر جابت أغلب أحياء وساحات القاهرة، مؤكدا أنه التحق بميدان التحرير قبل أسبوع، وأنه يعرض سلعته طوال الليل فيما يواصل ابنه ذو العشرين سنة دورة البيع في النهار". يصب لنا العم أحمد كوب شاي مضبوط على الخمسينة، كما يقول، قبل أن نسأله:"كيف ينظر إلى حال مصر والجدل السياسي المحتدم فيها مؤخرا"، ليجيب بتلقائية المصري المتأهب دائما للجواب:"ربنا يسهل، وإن شاء الله خير وربنا ينصر اولادنا". لكن عن أي أولاد يتحدث العم أحمد؟ أولاد المعارضة أم أولاد مرسي؟ لم نشأ إحراج الرجل الباحث عن الرزق في الميدان، ولم ننتظر إجابته. وسط تصاعد نبرة صوت نسوي تسلم المكروفون لتوّه، وشرع في إطلاق هتافاته من فوق المنصة التي نصبت حولها بعض الخيم. "ارحل ارحل.. مش عايزينك"، "مليونية حتى النصر".. تختلط هتافات الناشطة السياسية "سلمى" في بحّة جريئة تعطي نموذجا مشرّفا عن دور المرأة المصرية في تحويل هذا الميدان إلى أيقونة تغيير، يضرب بها المثل، وهو الأمر الذي تعزز فتيات ونسوة على اختلاف أعمارهن لا يجدن حرجا من دخول الميدان في هذا الوقت المتأخر من الليل. مثلهن مثل الصبي محمد، الذي يحمل في يديه أكياس ورق كلينيكس، يعرضها علينا بثقة تاجر راسخ في التجوال، حملته قدماه الصغيرتان أيضا إلى هذا الميدان بحثا عن بضع جنيهات. نسأله بخبث دعابة "أنت مع مرسي أو مع الميدان"، يجيب بخبث أكبر "أنا معاك يا باشا". ينجح الأطفال الباعة في القاهرة بشكل عام؛ في اصطياد جنيهاتك باحترافية بالغة، تتكئ على لسان ناعم قد يشعرك أنك أهم رجل في العالم، حتى وأنت تنظر إلى نماذج رائعة من شباب مصري واع ومثقف بنسائه ورجاله، استطاعوا أن يحولوا هذه البقعة الدائرة وسط القاهرة إلى مطبخ سياسي مفتوح على الجميع. مثلما حوّل بعض سكان المنطقة أيضا سكناتهم إلى مطبخ إعلامي مفتوح لمن يدفع أكثر. في سماء الميدان.. رزقٌ بالدولار مع ارتفاع بصرنا باتجاه المنصة، التي تقف عليها سلمى، تذكرنا تلك الصور والفيديوهات التي تصل يوميا فضائيات العالم ومواقع التواصل الاجتماعي، وتساءلنا عن مصدرها باعتبار أن الميدان يخلو من كاميرات مثبتة لوكالات الأنباء، فجاءنا الجواب صادما، جعلنا نفكر في العم أحمد والصبي محمد أمثالهما الذين يسكنون الميدان ليلا ونهارا من أجل عشرات الجنيهات في اليوم على أكثر تقدير، في الوقت الذي يستثمر بعض المصريين في مليونيات الثورة بتجارة تحصّل لهم "مليونات الجنيهات".. نعم ملايين الجنيهات!!؟ كيف ذلك؟ يلفت أشرف، وهو صحفي مصري مرافق لنا، انتباهنا إلى شُرف ونوافذ بعض العمارات السكنية المحيطة بالميدان، وهي في أغلبها شقق سكنية تابعة لخواص بمن فيهم أصحاب مكاتب عمل وشركات محلية. يؤجرون غرفها المطلة على الميدان للكثير من فضائيات العالم وعلى رأسها الفضائيات المصرية، على غرار قنوات أون تي في، الحياة، دريم والمحور.. إضافة إلى القنوات الإخبارية العربية وعلى رأسها قنوات الجزيرة، العربية، بي بي سي عربية وفرانس 24.. ثمن إيجارها حوالي ألفي دولار في الليلة الواحدة، وقد يصل في ليالي المليونيات إلى عشرة آلاف دولار لليلة الواحدة؛ مثلما حدث في مليونية الثلاثاء الماضي، وقد يحدث في مليونية "أمس" أيضا. وتستعمل تلك الفضائيات المستأجِرة، شرفات السكنات ونوافذها لنصب كاميراتها على مدار الساعة لاصطياد مشاهد الميدان الأشهر في العالم، مثلما ينصب الباعة المتجولون بسطاتهم المتواضعة على أرض الميدان لاصطياد بعض الجنيهات، من زوار هذا المكان الذي يستقطب مع مرور الوقت أعدادا متزايدة من المتظاهرين والفضوليين وأصحاب الأيدي الخفيفة أيضا، الذين ورغم الجيوب الكثيرة الواقفة والجالسة والنائمة في الميدان، ليست أيدي ناشطة على ما يبدو، لأن المتظاهرين يجتهدون بشكل كبير للحفاظ على أمن المكان ونظافته وحرمته أيضا، إلى درجة أنهم نصبوا خيمة للأشياء المفقودة، يلجأ إليها كل من فقد وثيقة أو مفتاحا أو هاتفا محمولا أوابنا في الزحام. على تلك المشاهد المهرّبة من معمعة الثورة السياسية على النظام الجديد في مصر، خرجنا من ميدان التحرير محملين بصور مواطنين مصريين بسطاء وجدوا في أرض الميدان لقمة عيش، فيما وجد مواطنون مصريون محظوظون، في سماء الميدان لقمة عيش أيضا مع اختلاف قيمة تلك اللقمة طبعا. بعيد عن تعقيدات السياسة وانتماءاتها
صحف محتجبة وقنوات في حداد الإعلام المصري المستقل في مواجهة مرسي إعلاميون مصريون ل"الفجر": "قرارات مرسي أعادت مصر خطوات إلى الوراء" استفاقت مصر، أمس، على مشهد احتجاب ما يقارب 16 صحيفة مصرية يومية حزبية ومستقلة، احتجاجا على ما وصفته "انتهاكا للحريات ومصادرة حرية الرأي، وضد الدستور المقرر طرحه للاستفتاء يوم 15 من شهر ديسمبر الجارى". وهو الاحتجاب الذي أعطى الانطباع بأن يوم الثلاثاء 4 ديسمبر 2012، سيكون يوما مشهودا في أيام مصر ما بعد الإعلان الدستوري الذي أعاد به الرئيس مرسي مليونيات المعارضة إلى ميادين وشوارع القاهرة وعدة من محافظات مصرية. فتحت أكشاك مصر، أمس، في غياب صحف "اليوم السابع"، "المصري اليوم"، "الوفد"، "الأحرار"، "الشروق"، "الوطن"، "الأهالي"، و"الفجر" وصحف أخرى غير حكومية، معلنة بداية يوم مليونية "الإنذار الأخير"، تلبية لنداء نقابة الصحفيين التي اجتمعت مساء أول أمس، مؤكدة على خروجها في مسيرة سلمية في حدود الساعة الثانية من مساء أمس. وتعد هذه المرة السابعة في تاريخ الصحافة المصرية، التي تحتجب فيها الصحف عن الصدور؛ حيث احتجبت 6 مرات سابقة أولها عام 1914 عندما فُرضت الحماية البريطانية على مصر وقتها، وفى عام 1923 احتجبت الصحف مجددًا احتجاجًا على قسوة الرقابة العسكرية على الصحف، ثم احتجبت للمرة الثالثة في 5 جوان 1951، احتجاجًا على قوانين كانت الحكومة وقتها تنوى فرضها على الصحافة لتقييد حريتها. وفي عهد الرئيس السابق حسني مبارك احتجبت الصحف 3 مرات أولها عام 1995 حين احتجبت الصحف احتجاجا على القانون رقم (93 لسنة 1995)، والذي يغلظ عقوبات الحبس في جرائم النشر، وفي جويلية 2006 احتجبت صحف مصرية، احتجاجا على مشروع قانون يسمح باستمرار العمل بعقوبة الحبس في قضايا النشر، وفي أكتوبر 2007 احتجبت صحف حزبية ومستقلة احتجاجًا على الاعتداء من جانب الحكومة على حرية الصحافة، بعد صدور أحكام على 10 صحفيين، بينهم 5 رؤساء تحرير بتهم من بينها إهانة قيادات في الحزب الوطني، وتحريف تصريحات لأحد وزراء النظام السابق. ويأتي احتجاب أمس، ليبدأ يوما مصريا حضّرت له القوى السياسية المصرية المعارضة، من أيام، ووضعت لمساتها الأخيرة ليلة أول أمس، حيث بدأ عدد كبير من المتظاهرين في النزوح إلى ميدان التحرير، تحضيرا لمليونية "الإنذار الأخير". وقد وافقت 10 قنوات فضائية مصرية، على تسويد شاشاتها، اليوم الأربعاء، منها "ONTV"، و"دريم"، و"CBC"، الحياة، القاهرة والناس والمحور.. وفي هذا الصدد، أكد بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، في حديثه ل"الفجر" أن "احتجاب الصحف أمس وتسويد شاشات القنوات المصرية اليوم، هو أقوى رسالة للرئيس مرسي ومن يعاضده، بأن مصير الثورة المصرية على شفى الانهيار، وأن مصر تدخل منعرجا خطيرا في تاريخها، لن تسلم من انزلاقاته سوى بإعادة نظر مرسي في قراراته الأخيرة". مؤكدا أن الدستور المعروض للاستفتاء هو بمثابة خطوة كبيرة للوراء عنه". من جانبه، رحب الكاتب الصحفي جمال فهمي في حديثه ل "الفجر"، قبل توجهه إلى ميدان التحرير، إن (دستور مرسي) لا يعبر عن مصلحة مصر. وإنما هو دستور جماعة تحاول الاستحواذ على الحكم، وتنصيب نظام قمعي على عنق مصر أسوأ من النظام السابق". مضيفا أن "مسيرة الثلاثاء هي خطوة لإعادة الشرعية للشعب وشباب الثورة التي أوصلت مرسي إلى كرسي الحكم". في السياق ذاته؛ قال الكاتب الصحفي والنقابي يحيى قلاش، المتحدث باسم لجنة الدفاع عن حرية الصحافة والإعلام، إن "الصحافة ليست ملكا للصحفيين، ولكنها ملك للمواطن المصري، وأن نضال الصحفيين "ليس من أجل الحصول على مميزات أو امتيازات خاصة، لكن من أجل حق المجتمع في الحصول على إعلام وصحافة حرة تنقل له الحقيقة كاملة". مشاهد يناير 2010 تعود في ديسمبر 2012 وبالعودة إلى مليونية "الإنذار الأخير"؛ قررت القوى المدنية وفى مقدمتها حركة 6 إبريل والمصريين الأحرار والتيار الشعبي وحزب الدستور، تنظيم مسيرتها، أمس، انطلقت من جامعة المنيا من أمام كلية الطب، حيث أكد علاء كناوي منسق حركة 6 إبريل، إن "المسيرة جاءت لتقذع الطريق أمام محاولة تمرير الدستور يوم 15 ديسمبر القادم مؤكدا على التضامن الكامل لمطالب التحرير". مضيفا إن "المسيرة سلمية لا تهدف إلى أي صدامات مع الجهات الأمنية أو المساندين لقرارات مرسي"، شأنها شأن مسيرات القوى السياسية والثورية المعتصمة بميدان التحرير التي شرعت في مسيرات سلمية إلى قصر الاتحادية لإعلان رفض الإعلان الدستوري ورفض الاستفتاء على مشروع الدستور، رافعة شعار "الإنذار الأخير"، مع استمرار الاعتصام بميدان التحرير. كما انطلقت مسيرة أخرى من أمام مسجد النور، ومسيرة أخرى أمام جامعة عين شمس. وأكدت القوى الوطنية في بيان صدر عن المؤتمر رفض القوى المعتصمة بالتحرير لما وصفه بالدستور المشوه الذي وضعته الجمعية التأسيسية للدستور رغما عن الشعب المصري، إضافة إلى رفضها الإعلان الدستوري، على حد قولها، موضحة أن مسيرات الاتحادية تهدف لإيصال رسالة إلى الرئيس محمد مرسي مفادها أن عليه الاستماع بوضوح إلى صوت المعارضة الوطنية التي تسعى إلى استكمال الثورة وتحقيق أهدافها. وانتقد البيان الإجراءات الأمنية المكثفة أمام قصر الاتحادية بغرض منع المتظاهرين من الوصول للقصر، واعتبرها البيان دليلا على إصرار الرئيس مرسي على تأكيد انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن سمح لأعضائها بالوصول إلى القصر بسهولة فيما أغلق البابا في وجه المعارضة. وكانت وزارة الداخلية قد قامت مساء أول أمس، بتأمين محيط قصر الاتحادية وسط حالة شديدة من الاستنفار الأمني، حيث دفعت بتعزيزات أمنية في محيط الشوارع المؤدية للقصر تضمنت سيارات الأمن المركزي ومصفحات للشرطة ووضع الأسلاك الشائك، في مشهد أعاد للمصرين مشاهد أيام الثورة الأولى قبل سقوط حسني مبارك وقبل تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية.