بدأ الحديث بجدية عن تعديل آخر للدستور وبهذا تتأكد مقولة أن لكل رئيس، في الجزائر، دستوره الخاص. بخلاف محمد بوضياف، الذي لم تدم له طويلا، وعلي كافي، الذي حكم الجزائر كرئيس دولة، فإن كل الذين مروا على قصر المرادية كانت لهم دساتيرهم؛ فكل آت يمسح نسخة الذي سبقه؛ ولعل الغريب في الأمر أن أفضل دستور، لحد الآن، هو ذلك الذي وضع في زمن اليمين زروال، فقد كان سابقا لزمانه وفي محيطه الجغرافي، إذ كان الوحيد في المنطقة العربية الذي حدد العهدات الرئاسية باثنتين فقط. الكلام عن صدور، أو وضع، دستور جديد، يثير الحديث عن أيهما أولى: الدولة أم السلطة؟ إذ المعروف، في الجزائر، أن حكامها، منذ استعادة السيادة الوطنية إلى اليوم، اختاروا أولوية السلطة على الدولة. لعل الجزائر لم تعرف رجال دولة إلا مع شخصيتين اثنتين، أولهما هواري بومدين الذي بدأ يتوجه، منذ منتصف السبعينيات، نحو تفضيل الدولة على السلطة، فهو القائل بضرورة بناء دولة لا تزول بزوال الرجال، وهو القائل أيضا، في آخر مؤتمر للمجاهدين، الذي كان آخر مؤتمر يحضره قبل أن يغتاله الموت، هو القائل: أنتم كلكم لا تهمونني، إن الذين يهمونني هم هؤلاء، فهم مستقبل الجزائر، مشيرا إلى مجموعة من الشباب كانوا بقاعة المؤتمرات. بومدين أدرك، خلال السنوات الأخيرة من عمره، أن الجزائر دولة لها كل مؤهلات الدولة الكبيرة فأراد أن يكبر معها لكن الموت لم يمهله. الرجل الثاني، الذي لم يكن، بحكم تكوينه ومساره الوظيفي، مهيئا للحكم ومع ذلك سير شؤون البلاد، في أصعب الظروف وأخطرها، كرجل دولة على قدر كبير من الأخلاق ومن العزيمة هو الجنرال اليمين زروال. هذا الرجل، الذي لا شك أن التاريخ سينصفه، جاء إلى الحكم لإنقاذ الجزائر، فمد يده إلى الجميع وبذل كل ما في وسعه لتوقيف شلال الدماء رغم المحيط الفاسد والمعرقل والذي لم يتمكن من التخلص منه في وقته. هذا الرجل، الآتي من عمق الجزائر، لم يقرب إليه أي واحد من أهله أو من عشيرته، ولم يفتح حسابات بالعملة الصعبة في الخارج ولا طأطأ رأسه أمام أي كان من حكام العالم رغم الوضع الأمني ورغم الضائقة المالية التي كانت عليها الجزائر، ولما غادر الحكم عاد إلى بيته المتواضع في مدينته، هذا الرجل حاول أن يفضل مستقبل الدولة على مصير النظام لذلك وضع دستورا لجزائر لا يموت فيها الحاكم من الشيخوخة والمرض وهو جالس على رقاب الناس. ليس من طبعي أن أمدح الحكام ولا المسؤولين لأني أعتبر كل مادح منافق ومنحط لا تتمثل فيه صفات الرجال، لكنها هنا كلمة حق في رجلين أحدهما غادر إلى الباقية والثاني لم يعد في الحكم ولا يفكر في الرجوع إليه. تفضيل السلطة على الدولة هو الذي يجعل دساتير الجزائر تغير مع كل معين جديد في رئاسة الجمهورية، فكل آت يعمل على تفصيل دستور على المقاس، أي بما يضمن له بسط سيطرته وسيطرة مجموعته على دواليب الحكم. هذا السلوك أفقد أهم وثيقة في منظومة الحكم قيمتها وبريقها وحولها إلى مجرد مسهل لهضم البلد بمؤسساته وخيراته من أجل ضمان البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. الدول التي منحها الله حكاما يريدون لها الفلاح والصلاح وضعوا دساتير بقيت وعمرت لعقود طويلة من الزمن دون أن تغير أو حتى تجدد لأنها وضعت من أجل تنظيم سير الدولة ومؤسساتها وليس لضمان بقاء السلطة ورجالها. عندما تقرر دولة راقية سياسيا وضع دستور جديد فإنها تعين لذلك لجنة من الخبراء في القانون الدستوري والعلوم السياسية وعلم الاجتماع والاقتصاد، فتختار من أفرادها من يقوم بدراسة مقارنة لدساتير الدول الأخرى واستخراج الاختلافات القائمة بينها، في نفس الوقت تفتح مجموعة معينة من أفراد اللجنة كل قنوات الاتصال (المباشر، عبر الصحف، شبكة الأنترنت... إلخ) مع المواطنين والخبراء والمختصين ومختلف فئات المجتمع لإبداء الرأي حول طبيعة النظام السياسي الذي يريدونه، ثم تجمع كل الاقتراحات مع نتائج مقارنة الخبراء لتناقش من طرف كل أعضاء اللجنة قبل أن توضع ديباجة أولى لمشروع الدستور التي تقدم لممثلي المجتمع المدني ولكل المواطنين للاطلاع عليها واقتراح ما يرونه صالحا لإضافته أو تعديله؛ بناء على ذلك يوضع المشروع النهائي للدستور الذي يقدم للاستفتاء عليه. بهذه العملية التي تتم دون أي تدخل من طرف السلطة الحاكمة يمكن وضع دستور لمستقبل الجزائر فهو لن يكون دستور الرئيس الحالي ولا للذي يأتي بعده بل دستور كل الشعب الذي شارك، بصفة أو أخرى، في وضعه.