أصبحت ظاهرة بيع الكتب المستعملة، أو كتب الأرصفة، موضة رائجة في شوارع العاصمة، شأنها في ذلك شأن المدن الكبرى في الجزائر، وذلك بعد الحرب التي طالت هؤلاء البائعين من قبل أصحاب المحلات الذين أصبح همهم الأول والأخير الربح السريع، والذي يجدونه مع أصحاب المهن التجارية ذات الإقبال الواسع ولا يجدونها عند بائع كتب. بهذه العبارة ردّ علينا أحد بائعي الأرصفة للكتب المستعملة، بعد سنوات طويلة قضاها يتنقل من محل إلى آخر ليجد نفسه اليوم عاجزا عن إيجاد مكان يبيع في هذه الأعمال التي يجد صعوبة كبيرة في الحصول عليها وتوفيرها للمثقف الجزائري، حيث أصبحنا اليوم نفاجئ في كثير من الأحيان باختفاء المكتبات وغيابها عن المشهد الحضاري للمدينة. “مكتبة العربي بن مهيدي” مكتبة الوداد”، “مكتبة ميديابوك”.. أمثلة حية على ذلك، حيث تم إغلاقها أو تغيير نشاطها غالبا إلى “الفاست فود” أو تجارة الأحذية الصينية. أما تلك الصامدة منها فصعوبة كبيرة تجدها في العثور على عناوين محددة، وقد يكون السبب قدم الطبعات أو نفادها، أواتجاه المكتبات في الوقت الراهن إلى الاعتماد على الكتب المدرسية والتجارية المضمونة الربح. وكنتيجة لغياب المكتبات ازدهرت تجارة الكتب المستعملة وأصبحت المتنفس والملجأ لهواة المطالعة.. الأصل التاريخي المهنة يعود أصل مهنة بيع الكتب المستعملة إلى العصر العباسي، حيث ارتبطت المهنة بازدهار الإنتاج الفكري وتكاثر المؤلفات في تلك الفترة، ما استدعى نشأة حرفة الوراقين الذين كانوا يقومون بمهمات عديدة، منها إصلاح الكتب القديمة التالفة وإعادة نسخ الأجزاء المنقوصة منها ثم بيعها مرة أخرى. وتجمع المصادر التاريخية على المكانة الكبيرة التي كان يحظى بها الوراقون في ذلك العصر. “أيها الجائع تناول كتابا فالكتاب سلاح” على غرار ساحات باريس، لندن، وشارع المتنبي بالعراق، تنتصب تجارة الكتب المستعملة في ساحة البريد المركزي مشكّلة مشهدا ثقافيا مبهجا يبعث الأمل في مستقبل القراءة في الجزائر. التقينا رضا، أحد باعة الكتب المستعملة، حدثنا عن بدايته مع تجارة الكتب:”بدأ الأمر صدفة عندما عثرت في مكتبة على مجلدات رغبت في اقتنائها، ولأني لم أكن أملك ما يكفي لذلك فكرت في بيع كتبي القديمة، جمعتها وافترشت مكانا إلى جانب الباعة هنا، بعد فترة مرت سيدة عرضت علي شراء مجموعة كتب بثمن بخس، فاشتريتها منها وبعتها بضعف الثمن، أعجبني الأمر.. إنه مربح بقدر ما هو ممتع بقدر ما يتيح لي التعامل مع الكتب التي أعشقها”. في دردشتنا القصيرة مع رضا تعرفنا على اطلاعه الكبير ومستواه الثقافي الراقي. وغير بعيد عن رضا، التقينا عمي عبد الرحمن، كاتب روائي يملك العديد من الأعمال المنشورة، اختار تجارة الكتب لأسباب مختلفة:”هنا ألتقي أصدقائي قرائي ومحبي المطالعة تجارة الكتب لا تعني لي الربح فقط أنها محاولة للتنشيط حياتي الثقافية لإبقائي على اتصال مع العالم”. أما عمار، فيقول إنه ورث المهنة عن والده الذي قضى حياته في تجارة الكتب المستعملة: “تربيت وسط الكتب وأحببتها، الكتب المستعملة تحمل الكثير من الأسرار في داخلها بقدر من تداولوا على قراءتها، أعثر أحيانا على قصاصات ورسائل مدسوسة بها أتلصص أحيانا على الكلمات التي يتركها ملاكها على أوراقها، لا أظن أن هذا الأمر متاح في تجارة الكتب الجديدة”. يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر بهذه العبارة أجابتنا إحدى المواظبات على قصد باعة الكتب المستعملة عندما سألناها عن سبب توجهها لشراء الكتب المستعملة. ليندة، طالبة أدب انجليزي، تقول إنها كانت تعاني كثيرا للحصول على نسخ من كتب تحتاجها لتخصصها: “تعودي على البائعين سمح لي بحجز النسخ التي أحتاجها، أصبحت أوصيهم أن يحتفظوا لي ببعض العناوين في المقابل، بدوري صرت أعيد بيع كتبي التي لا أرغب حقا بالاحتفاظ بها”. أما حياة، فتؤكد أن الأسعار المنخفضة للكتب هو ما يجعلها تواظب على اقتنائها:”بسعر كتاب واحد جديد أحصل على ثلاثة كتب وأحيانا أربعة”. ووسط سوق أحمد بوزرينة، ينزوي محل صغير بحميمية تناقض ديكور السوق، يقول مالك المحل إنه لم يغير نشاطه رغم التغير الكبير الذي عرفه السوق عندما سألناه عن طبيعة الكتب التي يبيعها، فوجئنا أنها تقتصر على مجموعات القصص المصورة، هذا النوع الذي يستوي الكثير من المعجبين بهذا الفن، يقول المالك أنه يملك أعدادا مفقودة وأخرى نادرة يقصده حتى الأجانب للحصول عليها. قل لي ما تقرأ أقول لك من أنت يجمع باعة الكتب المستعملة على تفوق الجنس اللطيف في اقتناء الكتب، حيث يقول الهادي، تاجر كتب مستعملة من تيزي وزو، أن 80 بالمائة من زبائنه نساء:”أعترف أن النساء في الجزائر يقرأن أكثر، تستهويهن في الغالب الروايات الرومانسية والقصص البوليسية، يحل الطلبة الجامعيون في المرتبة الثانية. كما يؤكد الهادي أن هناك من زبائنه الدائمين شخصيات مهمة وذات صيت تقطع المسافات الطويلة من أجل كتب تكون في الغالب فكرية وسياسية. رابح بلعوان وأمين الزاوي يشجعان تجارة الكتب المستعملة أجمع الباعة في ساحة البريد المركزي على فضل رابح بلعوان، نائب رئيس بلدية الجزائر الوسطى السابق، في منحهم تراخيص لممارسة نشاطهم بصورة قانونية، على غرار مدن العالم جميعا التي ينتشر فيها هذا النوع من التجارة. هذا النوع الذي يساعد على تشجيع المقروئية. كما يذكرون بامتنان مبادرة الروائي أمين الزاوي، الذي أقام يوما دراسيا في المكتبة الوطنية حول تجارة الكتب المستعملة وقام بدعوتهم للحضور والمشاركة في هذا اليوم. وكان هذا الاحتفاء بهم حدثا هاما، وللأسف لم يتكرر، فجل المهتمين بالشأن الثقافي اليوم، وعلى رأسهم وزيرة الثقافة خليدة تومي، لم يعودوا يولون أدنى اهتمام لهذا الإرث الذي سيندثر في ظل الضغوطات التي يعاني منها بائعو الكتب في الجزائر. لابد من معرض للكتب المستعملة يطالب تجار الكتب المستعملة بإقامة معرض سنوي لهم، على غرار الدول الأخرى، حيث ضربوا مثالا بمعرض الإسكندرية الذي شهد طبعتين ناجحتين منه، مؤكدين أن الأمر سيمنحهم فرصة لتبادل الخبرات وتطوير هذه التجارة وفتح قنوات اتصال بين بعضهم. كما يجد نظراؤهم في العاصمة اللبنانية، بيروت، كل الدعم من قبل المسؤولين لمواصلة مشوار الحفاظ على هذه المهنة التي تمتد إلى سنوات طويلة لازال فيها بائع الكتب المستعملة يحظى باهتمام أكبر من بائع الكتب الجديدة. معوقات كثيرة تواجه تجارة الكتب المستعملة في حديثهم عن الصعوبات والمشاكل، ذكر تجار الكتب المستعملة الأمور التي تعيقهم أحيانا، من بينها مشكلة الطقس لمن يفترشون الساحات، مشكلة التخزين والنقل، بالإضافة إلى قلة الإقبال في بعض المواسم، خصوصا في العطل. كما يضيف رضا أنه فقد بعض زبائنه الذين اهتدوا إلى تحميل الكتب من الأنترنت. قد تكون تجارة الكتب المستعملة متنفسا وتعويضا هاما عن غياب المكتبات في الجزائر في النهاية.. لا يهم إذا كان الكتاب جديدا بقدر ما يهم ما تحتويه ضفتاه. تقول إيليزابث براوننغ إن الكتاب هو المعلم الذي يعلم بلا عصا ولا غضب، بلا خبز ولا ماء، إن دنوت منه لا تجده نائما وإن قصدته لا يختبئ منك، وإن أخطأت لا يوبخك، وإن أظهرت جهلك لا يسخر منك سواء كان قديما أو جديدا.