خص المناضل الوزير صالح ڤوجيل ”الفجر”، بحديث حول تجربته في الحركة الوطنية وثورة التحرير ونقف معه في الحلقة الأخيرة (*) مع بعض خفايا ”مؤامرة العموري” التي دفع ثمنها بحكم وثيق علاقته بالعقيد محمد العموري كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ويفيدنا الشاهد بعناصر جديدة حول هذه القضية منها: أن شقيق السائق عمار ڤرام هو الذي أبلغ الرائد إيدير مدير ديوان كريم بقدوم العموري إلى تونس.. ويفسر ذلك بسابقة له مع العقيد أحمد أنواورة قائد الولاية الأولى الذي كان أدبه بعد أن اكتشف كذبه عليه. أن العقيد العموري انتقل وهو سجين إلى المناطق الحدودية، لتهدئة هيجان الوحدات التابعة للولاية الأولى والقاعدة الشرقية بسبب اعتقال قادتهم.. ويؤكد ذلك الرئيس الشاذلي بن جديد في مذكراته الصادرة أخيرا.. أن الرئيس بورقيبة عرض على العمورية حمايته حتى استقلال الجزائر، بعد أن تبين أن قضيته شأن داخلي، ولم تكن له أية علاقة بخصمه صالح بن يوسف ومن ورائه الرئيس عبد الناصر، لكن العموري اعتذر بأدب، مفضلا الموت على اللجوء السياسي.. (*) طالع ”الفجر” عددي 16 و23 يناير الجاري.
العموري لكريم: ”لو كنت مكان عبان لأثرت قضيتك!” لم يلتحق المجاهد صالح ڤوجيل بمنصبه على رأس ناحية بوعريف من المنطقة الثانية (بالولاية الأولى) كما سبقت الإشارة، لأن قيادة الولاية قررت استدعاء المكي حيحي قائد المنطقة الأولى للإلتحاق بتونس، وتعويضه بالحاج لخضر (محمد الطاهر عبيدي) مع تعيين ڤوجيل نائبا له في نفس الوقت.. وفي انتظار الدخول إلى الولاية، حضر بقاعدتها على الحدود التونسية زيارة رمضان عبان في يونيو 1957، غداة التحاقه بتونس (عبر المغرب)، في أعقاب قرار لجنة التنسيق والتنفيذ الأولى الاستقرار خارج الجزائر بعض الوقت، كان في استقبال عبان الرائد محمد العموري الذي فوجئ بأنه كان على سابق معرفة به، عندما لقيه سنة 1952 بسجن الحراش (أو سركاجي) رفقة أحمد بوڤرة الذي عرف بالمناسبة أنه هو قائد الولاية الرابعة آنذاك.. وحسب الشاهد أن العموري استفسر الزائر عن ضم عناصر من حزب البيان وجمعية العلماء والشوعيين إلى الهيئات القيادية للثورة.. فأفهمه بأن الهدف من ذلك هو عدم تمكين فرنسا من المناورة بهم ضد جبهة التحرير الوطني.. وغداة اجتماع مجلس الثورة بالقاهرة في أوت من نفس السنة، شكلت لجنة تنسيق وتنفيذ ثانية، أصبح قائد الولاية الأولى محمود الشريف عضوا فيها، فخلفه محمد العموري.. وبينما كان الملازم الأول ڤوجيل يتأهب للإلتحاق بالمنطقة الأولى رفقة الحاج لخضر، طلبه القائد الجديد للولاية، ليخبره بأنه تم تعيينه ممثلا لها في مكتب الإمداد المركزي بالعاصمة التونسية، وأنه رقي بالمناسبة إلى رتبة نقيب.. كان يقوم بمهمة الإمداد عمليا العقيد عمار أوعمران، فقام تحت إشرافه بعدة مهام منها: مهمة في ألمانيا عبر إيطاليا بهدف ضبط حاجات قسم الإمداد من الأسلحة، مع ممثله هناك المرحوم عبد القادر يايسي. مهمة في إسبانيا حيث بحث نفس الموضوع مع تاجر أسلحة ألماني هناك وكانت هذه المهمة بعد أن تقاسم أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ المهام، وإسناد قسم الإمداد رسميا إلى أوعمران، وكان ذلك في أبريل 1958.. شهد هذا الشهر كذلك تأسيس قيادة العمليات العسكرية، كنواة أولى لهيئة أركان جيش التحرير الوطني، وقد عين على رأسها العقيد السعيد محمدي (ناصر) بمساعدة العقداء: بن عودة (عمار) بن مصطفى، محمد العموري وعمارة (بوڤلاز) العسكري.. وصادف أول اجتماع لهذه الهيئة بعد تنصيبها الإعلان عن ”استشهاد” رمضان عبان في أواخر مايو الموالي.. فكان لذلك من نقاط جدول الأعمال بمبادرة من محمد العموري، فضلا عن موضوع اجتماع مجلس الثورة في المنطقة الحدودية. لم تعمر تجربة ”الكوم” طويلا لعدم انسجام أعضائها، وقلة استعدادهم للعمل تحت قيادة العقيد السعيد محمدي.. وبعد فترة أعد هؤلاء الأعضاء تقريرا باللغتين، موجها إلى لجنة التنسيق بالقاهرة.. وأشرف ڤوجيل على رقن التقرير بالفرنسية وكلف العقيد هواري بومدين بنقلة إلى اللجنة، وبعد قليل نزل بتونس بلقاسم كريم مسؤول قسم الشؤون العسكرية رفقة محمود الشريف مسؤول المالية. واجتمع الاثنان بأعضاء ”الكوم” لكل على حدة.. لبحث نقاط الخلاف، لاسيما نقطتي عبان واجتماع مجلس الثورة، ويذكر الشاهد نقلا عن العموري أن النقاش كان حادا، إلى درجة أن كريم ثار في هذا الأخير قائلا: ”متى عرفت عبان حتى تتطور بالحديث عنه؟!” فكان رده ”حقا لا أعرف عبان، لكن لو كنت مكانه ألا أثير قضيتك؟!”. وكان رد كريم على نقطة اجتماع مجلس الثورة بالمنطقة الحدودية، أن ذلك غير ممكن لأسباب أمنية، وربما تحفظ الحكومة التونسية على ذلك أيضا. ومع ذلك أصر العقيد العموري على التمسك بالمطلب الثاني، عكس بن عودة وبوڤلاز اللذين تمكن كريم من اقتناعهما، فتراجعا عن هذا المطلب.
العموري رفض عرضا من الرئيس بورقيبة لحمايته قابل المجاهد صالح ڤوجيل العقيد العموري قبل سفره الى القاهرة بحي ”بلغدير” في تونس، وكان رفقة النقيب محمد ملوح.. قابله إثر لقاء مع كريم، تمكن خلاله من إقناعه بهذا السفر. أخبر العموري ڤوجيل بذلك، فلم يخف اندهاشه. وعبّر عن ذلك قائلا: ”أتذهب إلى القاهرة بعد طرح مثل هذه المشاكل الخطيرة؟!” فكان رده: ”لقد قبل بقية أعضاء ”الكوم”، فهل أبقى وحدي؟!”. بعد يومين توجه العموري إلى القاهرة عن طريق طرابلس، فلما وصل هذه المدينة الأخيرة، راجت إشاعة القبض عليه هناك... عقب ذلك عاد كريم ومحمود الشريف الى تونس، وقاما باستدعاء الشاهد رفقة ملوح وكل من العقيد أحمد أنواورة قائد الولاية الأولى ونائبه العسكري عبد الله بالهوشات.. وخلال الاجتماع بهم كل على حدة، أخذ كريم يشكوهم تصرفات قائدهم السابق، في محاولة تحييدهم عنه.. وكان رد ڤوجيل: إذا حاد العموري عن الصواب فأنا مع الثورة، أما إذا كان الأمر يتعلق بمشاكل داخلية، فيمكن تجاوزها بالحوار. بعد قليل سمع ڤوجيل ورفاقه بتأسيس ”الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، دون أن يعلموا بماحدث لقيادة العمليات العسكرية ومعظم أعضائها، وغداة هذا الحدث الهام، أبلغ كريم وزير القوات المسلحة في الحكومة المؤقتة العموري بالقرار الذي كانت لجنة التنسيق والتنفيذ قد اتخذته بشأنه: تخفيض رتبته من عقيد إلى نقيب، واقترح عليه في نفس الوقت تعيينه ممثلا للحكومة الجديدة في جدة بالمملكة السعودية. رد العموري غاضبا: ”السفارة بعد الإستقلال لا قبله! وقد خرجت للجهاد لا للسفارة!”. وحسب الشاهد أن العقيد فتحي الديب - رجل المخابرات المصرية المكلف بالقضية الجزائرية - اتصل بالعقيد العموري في تلك الظروف، فأفهمه بأن ما حدث شأن داخلي... بعد فترة تلقى ڤوجيل مكالمة من العموري وقد وصل إلى طرابلس، يطب منه أن يرسل إليه سيارة وسائق فلبى طلبه بواسطة العقيدانواورة.. ولما حل بمدينة الكاف القريبة من الحدود زاره هناك، ثم عاد إلى تونس. وحسب الشاهد، أن العموري طرح من جديد في اجتماع 12 نوفمبر 1958، بالكاف مطلب اجتماع مجلس الثورة بالمنطقة الحدودية، وسط عدد من ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية... لكن الحكومة المؤقتة أعطت الحكومة التونسية رواية مخالفة: أن العموري عاد في إطار مؤامرة ناصرية، تستهدف الحكومة المؤقتة ونظام بورقيبة أيضا، بالتنسيق مع العناصر الموالية لصالح بن يوسف. وبناء على ذلك تحمست الحكومة التونسية، وسارعت بإلقاء القبض على المجتمعين بالكاف. في مساء نفس اليوم قبض على ڤوجيل بتونس، وتم جمع المعتقلين مؤقتا بثكنة الحرس الجمهوري في القبة، قبل نقلهم إلى ثكنة نف الهيئة بقمبلاط، حيث مكثوا نحو أربعة أشهر. وأثناء التحقيق، اكتشف الأمن التونسي أن الأمر يتعلق بمسألة داخلية بعيدة كل البعد عن رواية الحكومة المؤقتة.. وبناء على ذلك أرسل الرئيس بورقيبة المحجوب بن علي قائد الحرس الجمهوري إلى العقيد العموري بالعرض التالي: توفير حماية تونسية له حتى الاستقلال. استشار صديقة ورفيقه ڤوجيل في الأمر فاستحسنه أول وهلة، من باب الاعتقاد بأن قيادة الثورة يمكن أن تحكم عليهم بالإعدام. لكن العموري أبى ذلك، نفورا من حالة اللجوء المقترحة عليه قائلا: لأن أقتل أحسن! وليكن التاريخ شاهدا علينا أو عليهم! طلبت الحكومة المؤقتة من نظيرتها التونسية تسليم العموري ورفاقه، فاشترطت ذلك بمحاكمتهم وهكذا شكلت محكمة عليا للنظر في القضيو، عين العقيد بومدين على رأسها بمساعدة الرائد علي منجلي في دور النائب العام. كان العموري -حسب الشاهد- متفائلا بإسناد رئاسة المحكمة إلى بومدين، لأنه كان يعتقد بأنهما على نفس الخط والمطالب. كان المتهمون من الولاية الأولى إلى جانب العموري العقيد أحمد أنواورة قائد الولاية، ونائبه العسكري الرائد عبد الله بالهوشات، فضلا عن النقيبين صالح قوجيل ومحمد ملوح. وكان المتهمون من القاعدة الشرقية أربعة أيضا هم: الرواد محمد أعواشرية قائد القاعدة بالنيابة وأحمد دراية والشويشي العيساني، فضلا عن النقيب محمد الشريف مساعدية. وكان مع هاتين المجموعتين نقيب سابق في الولاية الرابعة، هو علي زغداني المعروف بمصطفى الأكحل من مغاوير علي خوجة. لم يكن تفاؤل العموري برئاسة بومدين للمحكمة العليا في محله، لأن الأحكام كانت قاسية جدا في حق ”رؤوس المؤامرة” في نظر الحكومة المؤقتة، وهم إلى جانب العموري، أنواورة، عواشرية وزغداني. وكان نصيب ڤوجيل وملوح خفيفا جدا، قياسا بما نال ”رؤوس المؤامرة”: سنة سجنا. بعد المحاكمة نقل العموري ورفاقه إلى سجن الدندان.. في قاعة كانت إسطبلا في السابق.. وكانوا في شهر رمضان يومئذ.. وذات ليلة نودي ”لرؤوس المؤامرة” في حدود الواحدة (16 مارس 1959)، فغادروا رفاقهم بدون رجعة. ويقول الشاهد إننا لم نسمع بإعدامهم، إلا بعد خروجنا من السجن أواخر 1959. كيف جردت القوة المحلية من سلاحها بعد فترة من الحبس بسجن الدندان، تجرأ المجاهد صالح ڤوجيل على مكاتبة عبد الله بن طبال وزير الداخلية في الحكومة المؤقتة، ليشعره بحالته ورفاقه، مشيرا بصفة خاصة إلى حالة القلق الذي استبد بهم، جراء عدم تبليغهم بالأحكام الصادرة عليهم من المحكمة العليا. وتبعا لذلك جاءهم أحمد بن شريف -من المكتب الثاني- ليبلغهم بالمناسبة مدة الحكم عليهم: سنة لكل من ڤوجيل وملوح، وسنتان لكل من الهوشات ودراية ومساعدية. وبعد عام ويومين أفرج عن ڤوجيل ورفيقه، فرغبا في الاتصال بكريم - وزير الحرب - لمعرفة وضعيتهما، ومصيرهما بعد الحكم عليهما.. وفي مكتب الوزير استقبله الرائد مولود إيدير مدير ديوانه، فأخذ يخاطبهما بلهجة أبوية، فاستوقفه قوجيل قائلا: لقد قضينا فترة العقوبة التي سلطت علينا، فإذا أخطأنا فقد دفعنا الثمن، وإذا لم نخطئ فالتاريخ أمامنا؛ ليحكم لنا أو علينا. فلما التحق كريم بمكتبه أخبره مدير ديوانه، فنهره قائلا: ”أمرتكم بقتلهم، وتريدني أن أستقبلهم؟!”. ومع ذلك استقبلهما واقفا، ليقول لهما باختصار: ”جميع جيوش العالم تسقط رتب الضباط المتورطين في مؤامرات”.. غضب ڤوجيل لهذا الرد؛ فأجاب قائلا: ”بإمكانك أن تنزع منا كل شيء ما عدا الجنسية!”. أمرهما بالخروج فانصرفا خائبين.. لم يكن بوسع ڤوجيل أن يعود إلى صفوف جيش التحرير كجندي بسيط... فظل على الهامش، بمنحة متواضعة لضمان الحد الأدنى من القوت. بعد فترة طلبه الرائد منجلي للعمل معه، لكنه رفض لأنه لم يكن نسي بعد، أن جماعة بومدين هي التي حاكمت العموري ورفاقه، وأن منجلي شخصيا لعب دور النائب العام في المحاكمة. وفي ربيع 1961 قبيل مفاوضات إيفيان الأولى، استدعاه الرائد منجلي عضو هيئة الأركان العامة لجيش التحرير ليعرف رأيه في الموضوع... فكان رأيه أن مواقف الطرفين ما تزال متباعدة، ومن ثمة فلن تأتي المفاوضات القادمة، بأية نتيجة. وفي خريف نفس السنة عرفت علاقات هيئة الأركان بالحكومة المؤقتة مزيدا من التأزم، فطلبت من ڤوجيل الإلتحاق بغارديماو، حيث تكفل به بعض الوقت الدكتور محمد الصغير النقاش، قبل تعيينه مؤقتا بالمنطقة الجنوبية التي كان على رأسها الرائد صالح السوفي. وغداة إيقاف القتال في 19 مارس 1962، التحق بالعقيد الطاهر الزبيري قائد الولاية الأولى الذي أعاد له رتبة النقيب التي كان جرد منها - أواخر 1958 - وكلفه بالعلاقة مع الإدارة المحلية المدنية والعسكرية. ويذكر الشاهد بالمناسبة، أن الفترة الممتدة من 19 مارس، الى إعلان استقلال الجزائر في 3 يوليو، شهدت مناورات خطيرة، منها طمع الجانب الفرنسي في أن يجعل من القوة المحلية (*) العمود الفقري، لجيش الجزائر المستقلة على حساب جيش التحرير... وبناء على ذلك، تقرر تجريد عناصر هذه القوة من سلاحها. وتم ذلك في عملية منسقة ما بين الولايات، دون أن تثير مشاكل تذكر. وغداة الاستقلال، اختار المجاهد صالح ڤوجيل العمل الحزبي، فالتحق في أكتوبر 1962 بقيادة جبهة التحرير، بعد أن فاتته فرصة المجلس التأسيسي الوطني.... ... (انتهى) (*) جيش قوامه 40 ألف جندي، شكل لحفظ الأمن أثناء الفترة الإنتقالية، ووضع تحت تصرف حكومة بومرداس بموجب اتفاقيات إيفيان، وكان الأمل يراود الحكومة الفرنسية، في أن تجعل الجزائر المستقبل من هذه القوة جيشا وطنيا..!