ليبي وسائق العموري يطيحان بمؤامرة العقداء الحلقة الأولى ''انقلاب العقداء'' أو ''مؤامرة العموري'' أو ''حركة العموري'' كلها أسماء لقضية تاريخية حساسة لم تسلط عليها الكثير من الأضواء رغم خطورتها، حيث كادت تتسبب في تمزيق جيش التحرير، واتهمت المخابرات المصرية حينها بدعم هذه المحاولة الانقلابية والمشاركة في التآمر على الحكومة الجزائرية المؤقتة، وهو ما نفاه بشكل قطعي فتحي الديب ضابط المخابرات المصرية المكلّف بملف الثورة الجزائرية وحاول بالمقابل التلميح إلى أن العقيد عبد الحفيظ بوصوف، مسؤول التسليح والاستخبارات، هو من يقف خلف هذه العملية، فيما لعب الزعيم التونسي لحبيب بورقيبة دورا في إجهاض هذه العملية العسكرية. جريدة ''الخبر'' وإيمانا منها بحق الجزائريين في الاطلاع على مختلف القضايا التاريخية التي تهم بلادهم، تسلّط اليوم الضوء من زوايا مختلفة على ''قضية العموري'' وخلفياتها لفهم أعمق لطبيعة الصعوبات الداخلية والخارجية التي واجهت قادة الثورة في طريقهم نحو تحقيق النصر على الاستعمار الفرنسي وانتزاع الحرية والاستقلال. عند اندلاع ثورة التحرير في نوفمبر 1954 اتفق قادة الثورة على منح قائد كل ولاية عسكرية استقلالية شبه تامة في تنظيم ولايته وتعيين إطاراتها لخلق أكبر مرونة في العمل الثوري ضد العدو، وبعد مؤتمر الصومام في أوت 1956 تم وضع قيادة عليا للثورة تحت تسمية ''لجنة التنسيق والتنفيذ''، وحاول عبان رمضان أن يتزعم هذه القيادة الجديدة إلا أنه اصطدم بالقادة العسكريين للثورة الذين تخلصوا منه في 27 ديسمبر 1957 بالناظور بالمغرب، بعد أن همّشوه في مؤتمر المجلس الوطني المنعقد في نفس العام بالقاهرة مع مطلع عام 1958 أصبح كريم بلقاسم مسؤول الشؤون الحربية في لجنة التنسيق والتنفيذ والقائد السابق لمنطقة القبائل الرجل القوي في جيش التحرير بصفته الوحيد من القادة الستة المفجّرين للثورة الذي بقي على قيد الحياة وحرا طليقا ولكنه اصطدم هو الآخر برجلين قويين هما عبد الحفيظ بوصوف مسؤول التسليح والاستخبارات والقائد السابق للولاية الخامسة (وهران) ولخضر بن طوبال مسؤول الشؤون الداخلية والتنظيم الإداري والقائد السابق للولاية الثانية (الشمال القسنطيني)، وشكّل ثلاثتهم النواة الصلبة للثورة، أو ما عرفت باللجنة الوزارية المشتركة للحرب، وعرفوا باسم ''الباءات الثلاثة''. قادة الشرق يرفضون التنازل عن نفوذهم لقيادة مركزية وعندما نصب الجيش الفرنسي خط موريس المكهرب والشائك والمليء بحقول الألغام على طول الحدود الشرقية والغربية مع تونس والمغرب، أصبح إيصال السلاح إلى الداخل عملية صعبة ومكلّفة جدا واستشهد الكثير من المجاهدين وهم يحاولون عبور الحدود، وحسب الدكتور عمار بوحوش في كتابه ''التاريخ السياسي للجزائر'' فإن كريم بلقاسم بصفته مسؤول الشؤون الحربية وضع استراتيجية جديدة لمواصلة الحرب داخل الجزائر بإنشاء ''لجنة العمليات العسكرية'' المعروفة باسم (كوم)، والمقسمة إلى لجنتي الشرق والغرب، وكان يريد تعيين على رأسهما كل من العقيد محمدي السعيد (قائد الولاية الثالثة القبائل)، والعقيد الصادق دهيلس (قائد الولاية الرابعة) وهما من أكثر القادة الثوريين موالاة له، إلا أن بوالصوف رفض ذلك وبعد مفاوضات شاقة تمكّن بوصوف من تعيين خليفته على رأس الولاية الخامسة (وهران) العقيد هواري بومدين رئيسا للجنة التنظيم العسكري بغرب البلاد بدلا من الصادق دهيلس قائد الولاية الرابعة الذي اقترحه كريم بلقاسم. هذا الأخير استطاع تثبيت العقيد محمدي السعيد على رأس لجنة التنظيم العسكري بشرق البلاد التي كانت تضم كلا من العقيد محمد العموري قائد الولاية الأولى (الأوراس)، والعقيد عمار بن عودة من الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) والعقيد عمارة بوفلاز قائد القاعدة الشرقية. وأعطى كريم بلقاسم أوامره بدخول جيش الحدود إلى الجزائر وإدخال السلاح إلى المجاهدين في الداخل، خاصة وأن 6 آلاف مجاهد كانوا مرابطين على الحدود التونسية فقط، ونحو 10 آلاف قطعة سلاح كانت مكدسة في ليبيا وتونس حسب الضابط المصري فتحي الديب في كتابه ''عبد الناصر وثورة الجزائر'' والذي أشار فيه إلى أن عدد المجاهدين في 1958 كان يبلغ 100 ألف نصفهم لا يملكون سلاحا. وإن كان العقيد هواري بومدين، رئيس لجنة التنظيم العسكري بالغرب قد تمكن من خلق الانضباط وتوحيد الصفوف والتعاون مع جميع المسؤولين بدعم من بوصوف، فإن الأمر في شرق البلاد كان أكثر تعقيدا وصعوبة. ويقول الدكتور عمار بوحوش في هذا الشأن ''اتضح أن قادة لجنة التنظيم العسكري بقيادة العقيد محمدي السعيد لم يتفاهموا فيما بينهم وامتنع كل واحد منهم عن التخلي عن نفوذه وسلطاته وجنوده في ولايته ولم يحبذوا فكرة خلق سلطة قوية للجيش''. وكان العقيد محمد العموري قائد الأوراس أكثر قادة الشرق رفضا لهذا التنظيم الجديد ووجه انتقادات خطيرة لكريم بلقاسم مسؤول الشؤون الحربية في قيادة الثورة. ويذكر العقيد علي كافي قائد الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) في مذكراته أن العموري كان ينتقد القيادة ويتهم البعض منها بالجهوية ويصفهم بالطماعين في زعامة الثورة، ويضيف كافي أنه نبه العموري حينها من خطورة كلامه وقال له: ''أنت صغير ولا تعرف المسؤولية وليست لك تجربة لتقييم المسؤولين'' وحذره عندما اتهم كريم بلقاسم وأوعمران ''بالجهوية'' وقال له: ''إذا ما تماديت في الحديث بهذه الطريقة عن مسؤوليك فإنك ستدفع الثمن غاليا''. كريم بلقاسم ينفي قادة الشرق إلى الخارج بعد أن لاحظت قيادة الثورة أن لجنة التنظيم العسكري بشرق البلاد لم تنسجم مع الاستراتيجية الجديدة للثورة اتخذت قرارا صارما وقاسيا في 9 سبتمبر 1958 تمثل حسب الدكتور بوحوش في ''عزل قادة لجنة العمليات العسكرية لناحية الشرق ونفي عمارة بوقلاز إلى السودان بعد تجريده من رتبته العسكرية ونفي العقيد العموري إلى لبنان بعد تخفيض رتبته إلى رائد، ونفي عمار بن عودة إلى سوريا بعد توقيفه عن العمل لمدة ثلاثة أشهر. أما العقيد محمدي السعيد فتم إيقافه عن العمل لمدة شهر ونفيه إلى القاهرة''، إلا أن العقيد زبيري آخر قادة الأوراس يؤكد أن عمارة بوقلاز نفي إلى العراق وليس إلى السودان وخفضت رتبته من عقيد إلى نقيب، أما العقيد محمد العموري فنفي إلى السعودية وليس إلى لبنان وخفضت رتبته إلى نقيب أيضا، فيما عيّن عمار بن عودة مساعدا لوزير التسليح والاستخبارات وأعيد تثبيت محمدي السعيد في منصبه، أما الرائد مصطفى لكحل المقرب من العموري فأبعد إلى القاهرة حسب فتحي الديب. وتم تعيين الرائد أحمد نواورة قائدا بالنيابة للأوراس خلفا للعموري، أما الرائد محمد عواشرية فخلف العقيد عمارة بوقلاز على رأس القاعدة الشرقية، في حين كان علي كافي على رأس الولاية الثانية (الشمال القسنطيني) حسب العقيد الطاهر زبيري. العموري يقود محاولة الانقلاب على الباءات الثلاثة رفض العقيد العموري الانصياع لقرار إبعاده إلى السعودية بل استقر في القاهرة، وحسب فتحي الديب فقد طالب العموري ''بمحاكمته علنيا مبديا استعداده لتحمل العواقب إذا ثبتت إدانته، إلا أن كريم بلقاسم راوغ في الاستجابة لطلبه وحاول إبعاده بالقوة إلى السعودية ولم ينجح''. وتجمع مختلف الشهادات على أن العموري بقي في اتصال مستمر مع قيادات الولاية الأولى والقاعدة الشرقية إلا أن الاختلاف يكمن في ما إذا كان العموري قام بالاتصال بقيادة الشمال القسنطيني كما أكد فتحي الديب بذلك أم لا، والإجابة تأتي سريعا من العقيد علي كافي الذي كان حينها قائدا للولاية الثانية والذي يؤكد أن العلاقة التي كانت تربطه بالعموري علاقة زمالة تطورت إلى صداقة وأن أول لقاء له بالعموري كان في تونس في ديسمبر 1957، وأن آخر لقاء جمعه به كان في تراب الولاية الأولى وإن لم يحدد كافي تاريخ آخر لقاء، إلا أنه واضح من سياق الكلام كان في أوائل 1958 عندما كان العموري على رأس الولاية الأولى، أي قبل أن يتم نفيه إلى السعودية، ولم يتحدث كافي في مذكراته عن أي اتصال أجراه معه العموري بشأن الانقلاب على الباءات الثلاثة ومعهم العقيد محمود الشريف القائد السابق للولاية الأولى. العموري كان يرفض المفاوضات مع فرنسا التي أقرّها مؤتمر طنجة ويوضح فتحي الديب في كتابه ''عبد الناصر وثورة الجزائر'' أن المحاولة الانقلابية التي قادها العموري في نوفمبر 1958 كان يسعى من ورائها لإلقاء القبض على الوزراء العسكريين في الحكومة الجزائرية المؤقتة (والتي تم الإعلان عنها في 19 سبتمبر 1958)، ومحاكمتهم عسكريا بالتهم التالية: انحرافهم عن مبادئ ثورة أول نوفمبر، إبعادهم للقادة الوطنيين الذين ساهموا في الثورة منذ قيامها وإحلال عناصر مشبوهة ممن خدمت الاستعمار، وسوء استغلال أموال الثورة وتراخيهم في إيصال السلاح إلى الداخل وحجزهم للذخيرة والسلاح في ليبيا وتونس لاتخاذها وسيلة للضغط على جيش التحرير للاستجابة إلى مطالبهم ورفضهم لانعقاد المؤتمر الوطني السنوي يوم 10 أوت 1958 وانتهاجهم سياسة ديكتاتورية مستبدة ضد كل مسؤول يقف في وجههم، وخضوعهم لبورقيبة واتجاههم للتفاوض مع فرنسا لقبول أنصاف الحلول وعدم الرجوع لأعضاء المجلس الوطني في القضايا الخطيرة، وفرضهم لشخصيات مكروهة لدى الشعب وضباط جيش التحرير وهم فرحات عباس، العقيد محمدي السعيد، الرائد إيدير والعقيد محمود الشريف. وتبدو للوهلة الأولى هذه الاتهامات متوافقة تماما إلى حد التطابق مع الموقف المصري من الأحداث التي ثارت في المنطقة حينها، والتي تميزت بصراع خفي بين القاهرةوتونس ومحاولة كل طرف بسط نفوذه على قادة الثورة في الداخل والخارج حسب ما جاء في ''مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين''، خاصة بعد انعقاد مؤتمر طنجة في أفريل 1958 الذي جمع الأحزاب الرئيسية الثلاث في كل من تونس والمغرب والجزائر، وتم الاتفاق خلاله على إنشاء حكومة جزائرية مؤقتة والاعتراف بها رسميا، حيث تم الإعلان عنها في وقت واحد في القاهرة والرباط وتونس وكان العراق أول دولة تعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة أما مصر فتأخرت في الاعتراف بها حسب المرحوم عبد الحميد مهري الذي كان وزيرا في هذه الحكومة. وكانت خطة الانقلاب حسب العقيد الطاهر زبيري (الذي كان حينها برتبة رائد في القاعدة الشرقية) تتمثل في إرسال فرقة كمندوس إلى مقر الحكومة الجزائرية المؤقتة بالعاصمة واعتقال كل من كريم بلقاسم وزير القوات المسلحة وعبد الحفيظ بوصوف وزير التسليح والاستخبارات وعبد الله بن طوبال وزير الداخلية والعقيد محمود شريف، بالإضافة إلى رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس. ليبي وسائق العموري يكشفان خيوط المؤامرة تفاصيل الكشف عن مؤامرة العموري يرجعها العقيد علي كافي إلى ''المناضل الليبي سالم شلبك الذي كان يحسن البربرية وكان العموري في بيته، حيث نقل عنه أن العموري عندما كلّم جماعته بالهاتف في الكافبتونس (مدينة بالقرب من الحدود الجزائرية) باللهجة الشاوية فهم شلبك كل ما قاله''، وكان شلبك حسب كافي مخلصا للثورة الجزائرية وعندما أحس بأن شيئا يحضّر قد يمس بالثورة تحرّك وأبلغ القيادات بما سمع، مما جعل القيادة في تونس تتبع اتصالات لعموري وأتاحت له الفرصة ليجتمع بمجموعته وألقت عليهم القبض أثناء ذلك وأدخلوا السجن ثم تمت محاكمتهم. أما رواية العقيد الطاهر زبيري، فتختلف قليلا وربما تتكامل مع الرواية الأولى. وتشير إلى أن العقيد العموري عندما توجه من القاهرة إلى ليبيا اتصل بنائبه السابق الرائد أحمد نواورة الذي خلفه على رأس الولاية الأولى وطلب منه أن يرسل له سيارة سرا لتقلّه إلى مكان الاجتماع في مدينة الكافالتونسية، فأرسل له نواورة سائقا يدعى ''عمار قرام'' وكان سائق الرائد عبد الله بلهوشات الذي كان حينها عضوا في قيادة الأوراس، إلا أن السائق نقل العموري ومصطفى لكحل من ليبيا إلى الحدود التونسيةالجزائرية وأبلغ كريم بلقاسم بما سمعه عن مؤامرة العموري. غير أن فتحي الديب يؤكد أن محمود الشريف القائد السابق للأوراس هو أول من اكتشف المؤامرة وأبلغ بها كريم بلقاسم الذي وجد صعوبة حسبه في إلقاء القبض على مدبري الانقلاب فلجأ إلى بورقيبة ليستعين بالسلطات البوليسية التونسية لإلقاء القبض على المتآمرين. لكن العقيد زبيري الذي كان قريبا من الأحداث يرد على هذه الادعاءات في مذكراته بالقول: ''تحدّث كريم مع الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة حول اجتماع الكاف الذي يدبر على الأراضي التونسية وكان يريد إعطاء أوامره لإلقاء القبض على قادة الولاية الأولى والقاعدة الشرقية المجتمعين هناك خاصة وأن فيلقا من جيش الحدود كان يخضع لسلطته المباشرة لكن بورقيبة رفض أن يدخل الإخوة الفرقاء في مواجهات مسلحة على أرضه وشدد على أن الحرس الوطني التونسي هو الذي سيقوم بهذه المهمة. وأثناء اجتماع الكاف في 16 نوفمبر 1958 والذي ضم 28 إطارا من قيادات الأوراس والقاعدة الشرقية، حاصر الحرس الوطني التونسي (الدرك) مكان الاجتماع واعتقل الجميع باستثناء أحمد دراية وعبد السلام المكلف بالمخابرات في القاعدة الشرقية والصالح السوفي كان قائرا للناحية العسكرية الثالثة بشار في 1965، لكن هذا الأخير حسب زبيري عاد في الغد وأعلن تبرؤه من هذه المؤامرة وأنه لم يكن يعلم موضوع الاجتماع الذي دعا إليه العموري. يتبع