الشاذلي يحاكم قادة ثورة التحرير ويكشف خبايا الصراع على السلطة بن بلة استغل فرصة سفر بومدين لتنحية بوتفليقة من الخارجية - “مؤتمر الصومام” أغضبنا لأنه همشنا وكان جهويا وإقصائيا - رفاق السلاح استدرجوا عبان رمضان إلى المغرب ليقتلوه - عقلية “أسياد الحرب” كانت وراء تمردات خطيرة أثناء الثورة - المجاهدون كانوا يقتتلون فيما بينهم والشعب يصرخ “سبع سنين بركات” - اكتشفت جثتي عميروش والحواس بقيادة الدرك بعدما صرت رئيسا عرض/ أيمن السامرائي تشكل مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد وثيقة هامة ينتظر أن تثير كثيرا من الجدل وردود الفعل، كونها تكشف جوانب ظلت خفية في مسار الثورة التحريرية والسنوات الأولى لاسترجاع الاستقلال، والصراعات التي كانت قائمة بين بعض القادة على السلطة. كما يتوقف عند التجاذبات التي كانت قائمة بين أحمد بن بلة وهواري بومدين، وصلت إلى “الانقلاب العسكري” أو “التصحيح الثوري”، بالإضافة إلى حركات التمرد التي حصلت على غرار “مؤامرة العقداء” وحركة العقيد الزبيري. ويقول بن جديد في مذكراته التي صدر الجزء الأول منها أخيرا عن منشورات “دار القصبة” تحت عنوان “ملامح حياة” وتكفل الكاتب عبد العزيز بوباكير بتحريرها طيلة أربع سنوات كاملة، إنه تردد كثيرا في الإفراج عن هذه المذكرات، مبررا الأمر بأن “كفاحه ومسيرته لا معنى لهما قياسا بجسامة التضحيات التي قدمها الشعب خلال مراحل تاريخه الطويلة”. وقال إن ما دفعه لكتابتها هو إلحاح أصدقائه من “المجاهدين المخلصين، ومحاولات البعض النيل من تاريخه النضالي”. ويعترف الشاذلي صراحة في مقدمة المذكرات التي تغطي حيزا زمنيا يمتد من 1929، سنة مولده، إلى غاية توليه السلطة في 1979، بأنه تعمد إسقاط بعض الأمور التي يمكن حسبه أن تؤول كإساءة إلى بعض الأشخاص، أو كتصفية حسابات شخصية، مضيفا “وإني إذا رجوت لهذه المذكرات رجاء فهو أن تقدمني للناس كما تمنيت أن يعرفوني وليس كما رسموه عني من صورة سماعا”. الطفولة ورحلة الدراسة والنفي ينطلق الشاذلي بن جديد من طفولته وأصول عائلته، ساردا تفاصيل كثيرة بحميمية بالغة، فيقول إنه ولد في 14 أفريل 1929 في بلدة “السبعة” الواقعة بين مدينة عنابة وبلدة “بوثلجة”، وينتمى إلى عرش “الجدايدية”، ذاكرا شجرة نسبه “أنا الشاذلي بن جديد 1929، ابن الهادي 1897، ابن أحمد 1860، ابن محمد 1740، ابن مبروك المعروف ببوذراع 1660. ومن جهة الأم أنا الشاذلي بن جديد ولد الصالحة بنت الشيخ محمد ابن مبروك ابن محمد ابن مبروك”. أما عائلته الكبيرة، فقد استقر بها المقام في بلدة “السبعة”، حيث تكاثرت وتملكت أراضي خصبة شاسعة، وحافظت على بنيتها العشائرية المغلقة من خلال صلات المصاهرة وروابط التضامن العائلي والقبلي. ويقول الشاذلي إن عائلته ميسورة الحال، كانت تتمتع بنفوذ وهيبة لدى سكان تلك البلدة، واشتهرت بمقاومتها للظلم، فجده “مبروك” عرف برفضه دفع الضرائب للعثمانيين الذين كانوا يغالون في تسليط العقوبات على السكان، ويثقلون كاهلهم بالضرائب، ويجمعونها بالقوة، ويصادرون المحاصيل، ويستولون على الماشية، الأمر الذي جعل جده يعلن العصيان عليهم ومحاربتهم فترة طويلة. ويتحدث الشاذلي عن والده الهادي، وهو مزارع يملك أراضي خصبة ورثها عن أبيه، وكيف ألصقت به تهمة “التشويش” على الإدارة الاستعمارية و”الڤياد” آنذاك، وهي التهمة التي يقول الرئيس الراحل، إنها ألصقت به لاحقا، فكان يسمى “ابن المشوش” وظل مراقبا من طرف الدرك و”الڤياد” وتم استدعاؤه أكثر من مرة للتحقيق، بينما نفي والده قبل ذلك، من بلدة “السبعة” في نهاية الثلاثينيات، ومنع من الإقامة فيها. ويختتم الشاذلي حديثه عن مرحلته طفولته ودراسته قائلا “إنه لمن طبيعة ذاكرة الإنسان أن تحتفظ باللحظات المشرفة والجوانب السعيدة في مرحة الطفولة والصبا. هل كانت طفولتي سعيدة؟ لا أجزم بذلك، لكنني حين استرجعتها اليوم من وراء العقود الثمانية التي عشتها أجدها، بلا ريب، مزيجا من صور وذكريات عن حنان الأم، وصرامة الوالد، ودفء الصداقة، وقيم تضامن الجزائريين في المحن والشدائد، وفي الوقت نفسه هي مشاهد من البؤس والشقاء فرضهما الاستعمار على أمثالي من الناس”. مجازر 8 ماي وخطواتي الأولى في السياسة يعود الشاذلي إلى الإرهاصات الأولى قبل اندلاع الثورة التحريرية، فيقول إن مجازر الثامن ماي 1945، كانت “الشرارة الأولى التي صقلت هممنا وشحذت عزائمنا وعمت وعينا بضرورة عمل شيء ما، حيث صار السؤال: ما العمل؟ هو خلاصة القضية الوطنية. لقد أضحت تلك الحوادث الدامية على شفاه أغلب الجزائريين إلى أن تحولت كلمة الجهاد إلى ما يشبه المفتاح السحري للإجابة على هذا السؤال”. ويسرد قصة معاناة الجزائريين هنا قائلا “بعد حوادث 8 ماي، شرعت السلطات الاستعمارية في مصادرة محاصيل عائلات الفلاحين الفقيرة، وتزامن ذلك مع هلاك المحاصيل في الأرياف، وما ترتب عنه من نزوح جماعي للفلاحين نحو المدن بحثا عن العمل ولقمة العيش، ولم تنج من ذلك المصير حتى العائلات المالكة، ومنها عائلتنا، رغم الأراضي الشاسعة التي كان يملكها والدي، والتي أصابها الإهمال”. ويمضى الشاذلي قائلا “بعد عام من تلك الأحداث، أنشأ فرحات عباس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وحاول هذا الحزب استخلاص الدروس من تلك الحوادث الأليمة، وصار يطرح شعارات أكثر واقعية تطالب بالإصلاح وبناء دولة قوية وعادلة تحت راية الديمقراطية الفرنسية. وقد استقطب حزب فرحات عباس في مدن سهل عنابة ملاك الأراضي وممثلي البرجوازية الصغيرة والموظفين وأصحاب المهن الحرة. وكان والدي من أوائل من انضموا إلى هذا التنظيم”. ويسرد الشاذلي قصة خطواته الأولى في عالم السياسة، فيقول “كان ذلك تحت تأثير والدي الذي كان مرشدي الحصيف في هذا الميدان، كنت، بالطبع، أسمع بأسماء مصالي الحاج وفرحات عباس والشيخ الإبراهيمي، لكنني لم أكن أدرك، في مثل سني، مغزى الصراعات التي كانت تجري آنذاك بينهم وبين الإدارة الاستعمارية، كان مستوى النقاش السياسي يتجاوز حدود مداركي. لذا كان علي أن أتعلم بنفسي. وجدتني وأنا بعد شاب يافع أدخل عالم السياسة من باب الانتخابات. فقد شجعني والدي على المشاركة كمراقب في انتخابات 1947 التي جرت بعد مصادقة البرلمان الفرنسي على القانون الأساسي للجزائر الذي رفضته كل الأحزاب الوطنية. واختارني لأداء تلك المهمة معلم فرنسي كان يرأس مركز الانتخابات في أولاد دياب لحثهم على التصويت على لوائح الحزب، وإفشال التزوير الذي كنا نخشى منه، كانت أول تجربة لي اكتشفت خلالها المبادئ الأولى للعمل الحزبي، وأهمها الدعاية السياسية وتنظيم التجمعات والخطب وتوزيع الملصقات. في المركز الذي عملت به حاول الڤايد مختاري أن يؤثر في سير الانتخابات، فجلس بطريقة استعراضية على كرسي بالقرب من الصندوق، ولم يتوقف عن التحديق باستفزاز في وجوه الناخبين لترهيبهم ودفعهم إلى التصويت على قوائم الإدارة. طلب مني والدي أن أسأل المسؤول عن المركز عن أحقية هذا الڤايد التواجد معنا هنا. وحين سألته قال لي ليس من حقه، ثم طلب منه أن يغادر المكان. قبل خروجه شتمني هذا الڤايد وهدد بالانتقام مني. وبالفعل، شكاني إلى الدرك الذي ظل يترصد تحركاتي عدة أيام لاعتقالي في أطراف البلدة، فاضطررت إلى الهروب إلى عنابة في سيارة طراكسيون للنائب في المجلس الجزائري باي العڤون. كان هذا القائد صديقا للعائلة، ثم أصبح عدوها اللدود وسببا في العديد من المشاكل التي لاحقت والدي فترة طويلة”. وبعدها، التحق الشاذلي بمركز للتكوين المهني سنة 47، تخرج منه ب”دبلوم”، واكتسب وعيه السياسي هناك بفعل الاختلاط بتلاميذ المدن الأخرى، وكانوا يجمعون الاشتراكات ل”حركة انتصار الحريات الديمقراطية”. وسنة 51 التحق بشركة “تاباكوب” التي كانت تجمع في شكل تعاوني، منتجي التبغ والكروم في سهل عنابة وڤالمة، وكانت توظف يدا عاملة ورخيصة من الأهالي والأوروبيين. وقد غادرها الشاذلي بعد عامين تقريبا، وقال عنها “اكتسبت فيها تجربة عملية غنية من خلال الاحتكاك بالفلاحين ومعايشة ظروف عملهم ومعاناتهم، لكن أهم ما اكتشفت فيهم حبهم للأرض، وتوسعت آفاقي ومداركي، أيضا، من خلال تعرفي على شباب من مناطق أخرى”. والدي لم يكن “ڤايد” وبن بلة روج أكذوبة خدمتي في الجيش الفرنسي تحدث بن جديد عن اندلاع ثورة التحرير في الفاتح نوفمبر بكثير من التدقيق في التفاصيل من حيث كلامه عن مدينته آنذاك، فقال “لم تشهد عنابة وما جاورها من المدن أية عملية عسكرية في ذلك اليوم رغم وجود المجاهدين في الجبال، ووجب انتظار نهاية 1954 وبداية 55 لتنتقل المجموعات الأولى من المجاهدين إلى العمل المسلح.. في منطقتنا تشكلت مجموعة صغيرة وبدأت تنشط بقيادة المناضل شويشي العيساني الذي كان يتلقى الأوامر مباشرة من عمارة العسكري المدعو بوقلاز. وكانت هذه المجموعة تأتي من حين لآخر إلى السبعة لتجنيد الشباب وتوعية السكان بأهداف الثورة، واستقاء المعلومات عن تحركات العدو وعملائه.. وكنت أنا والوالد على اتصال بالمجموعة، فقد أعطى عمارة بوقلاز تعليمات إلى العيساني للاتصال بوالدي وبي، واستشارتنا في كل كبيرة وصغيرة”. وتحدث بن جديد عن جرائم وتصفية حسابات كان البعض يقوم بها ويلصقها بالمجاهدين، فلم يكن صدفة أن يوجه الاتهام في مرة إليه ووالده كونهما كانا يوصفنا ب”المشوشين”، وحدث مرة أن وصله استدعاء من الدرك، وحينها اتصل بالمجموعة الثورية وشرح للعيساني المسألة، وكيف أن “الڤياد” يترصدونه، وأقنعه بالالتحاق بالفوج مطلع شهر مارس 1955. وأوضح هنا “كان عمري حين التحقت بالمجاهدين 26 عاما، وقد استشرت قبل ذلك والدي ومعلمي فشجعاني على الأمر.. وهكذا لم أنتم في يوم من الأيام إلى الجيش الفرنسي، ولم أؤد الخدمة العسكرية في صفوفه، ولم أشارك في محاربة الشعب الفيتنامي في الهند الصينية، كما أشيع عني لأسباب سياسية مغرضة الهدف منها النيل من سمعتي ومحاولة إيهام الناس بأنني التحقت بالثورة في وقت متأخر”. ويتهم بن جديد بعض السياسيين، ذاكرا منهم الراحل أحمد بن بلة، بترويج معلومات خاطئة عن خدمته في الجيش الفرنسي ل”أهداف معروفة لا داعي للخوض فيها”. وطالب المؤرخين محمد حربي وبن يامين ستورا وجيلبير ميني هنا، بتصحيح الأخطاء والحقائق المشوهة التي شملت والده أيضا، حيث يذكر بعض المؤرخين أن الهادي بن جديد كان موظفا لدى السلطة الفرنسية، مضيفا “لم يكن والدي في يوم من الأيام »ڤايد« أو موظفا في الإدارة الاستعمارية، لقد كان مناضلا معروفا في المنطقة، وانضم في البداية إلى حزب فرحات عباس، ثم انخرط في حركة انتصار الحريات الديمقراطية.. كنت طلبت وأنا رئيس للجمهورية، من أحد مساعدي أن يقوم بتصحيح هذه المعلومات المغلوطة، لكنه لم يفعل، واليوم أرى من الضروري أن أقوم بذلك في هذه المذكرات تصحيحا لتاريخ الثورة والأشخاص بعد أن طالهما الكثير من التشويه والتزوير”. “مؤتمر الصومام” يفجر أزمة بين قادة الثورة يكشف بن جديد أن مؤتمر الصومام 1956، والنتائج التي خرج بها، كانت سبب الخلاف مع قادة “القاعدة الشرقية” بزعامة عمارة بوقلاز الذي لم يستسغ هو والعاملون معه، منهم بن جديد، انعقاد المؤتمر دون أن تشارك الولاية الأولى في أشغاله بعد استشهاد قائدها مصطفى بن بولعيد، إلى جانب غياب ممثلي الثورة في الخارج لأسباب غير معروفة، وإقصاء منطقة سوق أهراس التي لم يطلع المؤتمرون على تقرير مفصل حول وضعية الثورة فيها كتبه وأرسله بوقلاز. ويقول بن جديد هنا “هذا التقرير ربما أخفي أو مزق، وأبقى المؤتمر على سوق أهراس تابعة للمنطقة الثانية التي أصبحت تدعى الولاية الثانية، وفوجئنا أيضا بصدور قرارات هامة بالنسبة لمستقبل الثورة، ومصير منطقة سوق أهراس لم نستشر بشأنها ولم يأخذ المؤتمرون برأينا فيها”. ويعدد بن جديد القضايا التي لم يحصل حولها إجماع بعد المؤتمر، وأثارت خلافات عميقة وجدلا واسعا، وهي مبدأ أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري، حيث عارض الوفد الخارجي المبدأ الأول لأسباب واضحة، أما المبدأ الثاني فلم نكن نعترض عليه إدراكا منا لضرورة الإشراف السياسي على أي عمل مسلح وكان الاعتراض عليه شديدا من الوفد الخارجي، خاصة بن بلة والولاية الأولى التي حدثت فيها بسبب هذه القضية صراعات أدت في بعض الأحيان إلى استعمال العنف. ورغم هذا، يعترف الرئيس الراحل في مذكراته بأنه “لا أحد منا في منطقة سوق أهراس والقالة كان ينكر أهمية القرارات التي تمخض عنها مؤتمر الصومام، وحتى عمارة بوقلاز كان في اجتماعاته معنا يحتج على إقصاء منطقة سوق أهراس وتهميشها وعدم الاعتراف بها كولاية أكثر من احتجاجه على قرارات المؤتمر. كان موقفه تكتيكيا، إذ كان يريد أن يضغط على مسؤولي الثورة بهذه الطريقة لكي يحقق الفكرة التي طالما راودت مجاهدي القالة وسوق أهراس، وهي منح المنطقة وضع ولاية على غرار المناطق الأخرى”. “خارجون عن القانون” يؤسسون القاعدة الشرقية يواصل بن جديد الحديث عن أزمة مؤتمر الصومام موضحا “بعد اعتراضنا على الطريقة التي تم بها عقد المؤتمر وليس على قراراته، اتهمنا بالتشويش، أي أننا أصبحنا في نظر القيادة المنبثقة عنه خارجين عن القانون، وظل هذا النعت لاصقا بنا فترة طويلة، ورفضت لجنة التنسيق والتنفيذ مدنا بأية مساعدة مادية أو عسكرية، بعد الطلب الذي تقدم به عمارة بوقلاز، وضرب علينا حصار اقتصادي حقيقي.. شعرنا بعد المؤتمر بالإقصاء والتهميش، وكانت خيبة الأمل كبيرة في صفوف المجاهدين، وشرع عمارة بوقلاز في تنظيم عملية تحسيس واسعة، وأعاد الاتصال بمسؤولي جيش التحرير الوطني الذين عقدوا اجتماعا في ديسمبر 1956 وحاولوا من جديد إنشاء ولاية مستقلة عن الولايتين الأولى والثانية تدعى عين البيضاء وجددوا رفضهم لقرارات مؤتمر الصومام بسبب عدم تمثيله لجميع المناطق، وتناقضه مع الاتجاه الأول للثورة، واعترافه بأولوية السياسي على العسكري والداخل على الخارج، وعدم نصه على أن الجزائر دولة عربية إسلامية”. وتطورت الأمور لاحقا لتنشأ “القاعدة الشرقية” في نهاية 1956، بينما لم يستسغ قادة الولاية الثانية ذلك وظل بعضهم يعتبرها حتى 1962 جزءا من الولاية الثانية. “مؤامرة العقداء” مغالطة تاريخية وظفت سياسيا يتوقف الشاذلي بن جديد بالتفصيل عند ما عرف ب”مؤامرة العقداء” 1958 – 1959، فيقول “أسالت حادة الكاف، أو كما يسميها البعض خطأ (مؤامرة العقداء) أحيانا، وأحيانا أخرى مؤامرة العموري، الكثير من الحبر. وأدلى برأيه في أسبابها وملابساتها حتى من لا علاقة له بها، لا من قريب ولا من بعيد. ويجدر بي أن أوضح من البداية، أننا في القاعدة الشرقية لم نكن نستسغ كلمة (مؤامرة)، ذلك أن هذه الكلمة بإيحاءاتها السلبية وتوظيفاتها السياسية يمكن أن تقدم فكرة خاطئة عن فصل مأساوي من فصول كفاحنا المسلح، أو أن ترسم صورة مشوهة عن ثورتنا عن طريق تقديمها، وكأنها سلسلة من الدسائس والمؤامرات والمقالب والانقلابات. وهذا غير صحيح تماما. ولأني عشت بعض فصول حادثة الكاف، والتقيت بعض أعضاء الحكومة المؤقتة للتفاوض معهم حول مصير محمد العموري وزملائه قبل إعدامهم، أرى من واجبي الإدلاء بشهادتي في الموضوع. لم تكن القضية، في الحقيقة، تنازعا على سلطة أو صراع عصبة ضد عصبة أخرى، وإنما الأمر كان متعلقا بخلافات عميقة حول أساليب قيادة الكفاح المسلح وطرق تسيير الثورة سياسيا واختيار القادة، أي مصير الثورة بصفة عامة. وكان محمد العموري ومحمد عواشرية وأحمد نواورة والرائد مصطفى لكحل وأغلب ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية مقتنعين أن الثورة انحرفت عن مسارها الأصلي، وأنه يجب التحرك لإصلاح الأوضاع قبل انفلاتها. هكذا تبلورت، شيئا فشيئا، فكرة استعمال العنف ضد القيادة الثلاثية لحملها على مراجعة القرارات التي اتخذتها في حق عمارة بوقلاز ومحمد العموري بعد حل لجنة العمليات العسكريةCOM . وينبغي لنا أن نرجع قليلا إلى الوراء لوضع حادثة الكاف في سياقها التاريخي الحقيقي بالحديث عن مصير القاعدة الشرقية وما كان يخطط لها في الخفاء”. رفاق عبان رمضان قتلوه في المغرب لم تعمّر القاعدة الشرقية، التي ولدت في الآلام والدموع، طويلا، فبعد عامين من نشأتها العسيرة وئدت بطريقة عسيرة. أيضا، مع نهاية سنة 1958 وأسدل الستار عل مآثر وتضحيات قادتها وجنودها. وكان مصير بعض قادتها مأساويا وترك آثارا لا تمحى في نفوس مجاهدي المنطقة وفي مسيرة الثورة ككل. لكن الرهانات التي أحاطت بها منذ تأسيسها حولتها إلى مصدر لأطماع السياسيين وبعض المغامرين ودسائس الطامحين إلى الزعامة. كانت السنة التي تفككت فيها القاعدة الشرقية مضطربة وخطيرة على أكثر من صعيد فعلى مستوى قيادة لجنة التنسيق والتنفيذ تفاقمت الخلافات بين أعضائها، وانعكست سلبا في الميدان على القدرات القتالية للجيش. وطفت تلك الصراعات إلى السطح، ولم تعد سرا يخفى بعد مقتل عبان رمضان في نهاية 1957. في البداية صدقنا ما أعلنته جريدة (المجاهد) حول استشهاده في ميدان الشرف، لكننا بعد فترة قصيرة فوجئنا بالحقيقة المفجعة، وهي أن رفقاء في السلاح استدرجوه إلى المغرب ليقتلوه، كانت الصدمة عنيفة في صفوف المجاهدين، وندد بوقلاز، رغم خلافه مع عبان رمضان، في رسالة شديدة اللهجة إلى لجنة التنسيق والتنفيذ، بهذا الاغتيال الجبان لأحد رموز الثورة، ونظم يوم حداد واحتجاج في القاعدة الشرقية. في تلك الفترة كانت قيادة الجيش الفرنسي ماضية في تنفيذ مخططاتها الرامية إلى عزل جيش التحرير، وقطع الدعم عنه من الخارج وشرعت في تطبيق خطتي وزير الدفاع أندري موريس والجنرال شال. أما على الصعيد السياسي، فقد اتسمت سياسة الجمهورية الخامسة التي وصلت إلى الحكم بفضل المتطرفين وقسم هام من ضباط الجيش الفرنسي بالمزاوجة بين العمليات العسكرية والتنازلات الجزئية لصالح الجزائريين. وكان اعتلاء ديغول سدة الحكم أخطر مرحلة مرت بها الثورة الجزائرية. وقد انخدع بها بعض القادة السياسيين الذين صدقوا مبادرات ديغول، خاصة بعد زيارته إلى الجزائر في جوان 1958، ثم إعلانه لمشروع قسنطينة، كان مشروع قسنطينة يمثل الجزرة، أما خطة شال الهادفة إلى القضاء على جيش التحرير من خلال تكثيف عمليات مراقبة المناطق الحدودية وتمشيطها فقد كانت بمثابة العصا. وتوج ديغول سياسته باقتراحه الشهير (سلم الشجعان) الذي كان يمثل، بالنسبة إلينا، رفع راية الاستسلام البيضاء، واستبعاد الحوار حول المستقبل السياسي للجزائر. خطة “شال” وخلاف “الباءات الثلاثة” يواصل بن جديد شهادته قائلا “ويهمنا هنا الحديث عن الهجوم العسكري الضخم الذي شرع الجنرال موريس شال في الإعداد له بعد أن عينه ديغول في 1958 قائدا لأركان الجيش. وكانت إستراتيجية هذا الجنرال تسعى إلى تحقيق أهداف محددة، هي عزل الولايات الداخلية عن قواعد التموين والتسليح، أي بعبارة أدق فصلها عن القاعدة الشرقية، وعزل السكان عن المجاهدين عن طريق إنشاء محتشدات ومناطق عازلة، مثلما حدث بين شال وموريس، والتخطيط لعمليات واسعة النطاق، مثل عمليات الشرارة Etincelle في الهضاب العليا وجيمال Jumelles في القبائل وعملية الأحجار الكريمة Pierres précieuses في الشمال القسنطيني. ثم بعد ذلك الشروع في تشييد خط مكهرب يحمل اسمه، أصبحنا نسميه فيما بعد (خط الموت) وسخرت فرنسا إمكانات ضخمة لإنجاز هذا السد بوتائر سريعة. وكان الهدف من تشييده تدعيم خط موريس والتضييق على المجاهدين ومنعهم من دخول التراب الوطني وتزويد الداخل بالسلاح والذخيرة وفي الوقت نفسه إنشاء منطقة عازلة أصبحت تدعى No man's land. في مثل هذه الأوضاع الصعبة بدأ التخطيط لتفكيك القاعدة الشرقية، وتمت الخطوة الأولى في النصف الأول من عام 1958 عين اتخذ كريم بلقاسم قرارا متسرعا يقضي بإنشاء لجنة العمليات العسكرية في الحدود الشرقيةوالغربية، كان الهدف المعلن هو تكليف هذه الهيئة بقيادة العمل المسلح في الداخل، لكنها في الحقيقة بداية لتفكيك القاعدة الشرقية وتصفية مسؤوليها. برزت الخلافات بين الباءات الثلاثة حتى في تشكيل الكوم COM، واضطر بوصوف وكريم بلقاسم وبن طوبال إلى الوصول إلى تسوية فيما بينهم من خلال مراعاة مبدأ التمثيل الجهوي ومبدأ تمثيل كل الولايات. وأصبح واضحا أن مبدأ القيادة الجماعية الذي استندت إليه الثورة منذ اندلاعها صار يتلون بحقائق الميدان ولعبة التوازنات. وفي الحدود الغربية أنشئت لجنة العمليات العسكرية بقيادة هواري بومدين الذي فرضه بوصوف وعين العقيد الصادق نائبا له، وكانا يشرفان على الكفاح المسلح في الولايات الرابعة والخامسة، أما كوم الشرق، فقد كان بؤرة حقيقية للخلافات والتناقضات المنذرة بانفجار في أقرب الآجال. فلا شيء كان يوحي بضمان أبسط شروط التنسيق والعمل الجماعي بين رئيسه محمدي السعيد – الولاية الثالثة – ومحمد العموري – الولاية الأولى – وعمار بن عودة – الولاية الثانية – وعمارة بوقلاز – القاعدة الشرقية. وكان الخلاف بين بوقلاز وبن عودة على أشده. وكان هذا الأخير ينسق مع بن طوبال لتحييد بوقلاز. بعد ذهاب بوقلاز إلى الكوم أعيد النظر في قيادة القاعدة الشرقية، وعين الرائد محمد الطاهر عواشرية مسؤولا عنها، والرائد شويشي العيساني نائبا له، وتولى مسؤولية المنطقة صهر بوقلاز رصاع مازوز، يساعده ثلاثة نواب برتبة ملازم أول؛ هم الشاذلي بن جديد ويوسف بوبير وبلقاسم عمورة المعورف ببلصويوي. وأجريت تغييرات مماثلة في المنطقتين الثانية والثالثة اللتين بقيتا تحت مسؤولية عبد الرحمن بن سالم والطاهر الزبيري”. المواجهة مع الحرس التونسي على الحدود في نهاية سبتمبر من السنة نفسها اتخذت لجنة التنسيق والتنفيذ في اجتماع في القاهرة آخر قرار لها، قبل تعويضها بالحكومة المؤقتة، يقضي بإلغاء الكوم واتهام أعضائه بالتقصير والعجز عن تطبيق قرارات القيادة واللاكفاءة. واتخذت أيضا قرارات تعسفية مجحفة في حقهم، وشعرنا نحن الضباط في القاعدة الشرقية بأن الأمر يتعلق بمكيدة تهدف إلى تصفية مسؤولينا والانتقام منهم، خاصة وأننا لاحظنا نوعا من التمييز في طبيعة العقوبات ودرجاتها. فقد سلطت أقسى العقوبات على قادة الولاية الأولى والقاعدة الشرقية واكتفت اللجنة بعقوبات بسيطة ضد الأعضاء الآخرين، هكذا نزلت رتبة بوقلاز إلى نقيب، ومنعه من ممارسة أي نشاط، وأبعد إلى بغداد، وليس إلى السودان كما جاء في بعض الكتب، كما نزلت رتبة العموري وأبعد هو الآخر إلى جدة، لكنه لم يلتحق بها، وبقي لاجئا في ليبيا، بينما اكتفت اللجنة بإبعاد بن عودة لمدة ثلاثة أشهر إلى بيروت، أما المسؤول الأول عن الكوم، محمدي السعيد، المتهم الأول بضعف التسيير، فقد ألحق بالحكومة المؤقتة بالقاهرة، ليكلف بعد شهر بقيادة التنظيم الجديد – هيئة أركان الشرق -ولاشك أن عمارة بوقلاز هو من دفع العموري إلى رفض قرارات الحكومة المؤقتة، أو بالأحرى قرارات القيادة الثلاثية، لكنه كان يسعى إلى حل هذه المشكلة بالطرق السلمية وفي الأطر النظامية. غير أن العموري فضل اتباع أسلوب آخر باستعمال القوة. وشرع في تنسيق جهوده للإطاحة بالعسكريين في الحكومة المؤقتة مع أحمد نواورة الذي خلفه على رأس الولاية الأولى ومحمد الطاهر عواشرية، قائد القاعدة الشرقية بعد بوقلاز. وكانت نقطة الخلاف الأساسية هي الإسراع بدخول الجيش إلى التراب الوطني في تلك الظروف الصعبة. لكن نواورة وعواشرية رفضا هذا الأمر واشترطا الإشراف على قواعد الحدود. وأثناء ذلك بدأ العموري يخطط بالتنسيق مع مصطفى لكحل المدعو باليسترو، للعودة إلي تونس، وكان الخطأ الذي ارتكبه العموري هو عقد الاجتماع في تونس بدل عقده داخل القاعدة الشرقية. فقد كان بإمكاننا أن نوفر له الحماية الكافية، خاصة وأن أغلب قادة المناطق الثلاث كانوا يساندون أطروحاته. وشرع عواشرية في عقد سلسلة من الاجتماعات معنا في المنطقة الأولى والثانية والثالثة في انتظار وصول عميروش والحواس. وكانت الاتهامات التي وجهها في تدخلاته تتلخص في أن الحكومة المؤقتة تعيش في تونس حياة بذخ في الوقت الذي يعاني فيه المجاهدون نقصا في السلاح والذخيرة، وطالب بتقديم توضيحات حول اغتيال عبان رمضان، كما طرحت فكرة استبدال فرحات عباس بلمين دباغين، على رأس الحكومة المؤقتة. وعلم كريم بلقاسم ومحمود الشريف بوصول العموري إلى الكاف عن طريق طائق تكفل بنقله من طرابلس. ومن المرجح أيضا أن القيادة الثلاثية علمت بما يدبر ضدها عن طريق العيون المندسة في أوساطنا والنواب الذين طردهم الجنود والتحقوا بجيش الولاية الثانية. جرى الاجتماع بحضور ضباط الولاية الأولى والقاعدة الشرقية، منهم الرائد شويشي العيساني، العقيد أحمد نواورة، مصطفى باليسترو، أحمد دراية، محمد الشريف مساعدية، والرائد بلهوشات. كانت القيادة الثلاثية قد نجحت في إقناع بورڤيبة أن المجتمعين في الكاف لا يتآمرون ضد الحكومة المؤقتة فحسب. وإنما يخططون أيضا للإطاحة به واستبداله بصالح بن يوسف، والدليل أن أغلبهم ساند اليوسفيين منذ انطلاق الثورة، فداهم الحرس الوطني التونسي العمارة التي عقد بها الاجتماع واعتقل المجتمعين. كانت الضربة قاسية بالنسبة إلينا فبعد أيام شرع الحرس الوطني التونسي في نقل الجنود الجزائريين على الحدود لمحاصرتنا وقطع التموين عنا. ووجدنا أنفسنا بين مطرقة جيش الحدود بقيادة علي منجلي وسندان الجيش الفرنسي. إما أن ندخل في حرب الإخوة الأشقاء وإما أن نسلم أنفسنا للعدو. وكلا الخياران مُران وفضلنا الحل السلمي في الأطر النظامية. اللقاء مع كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال في أثناء ذلك قرر كريم بلقاسم إزاحة رصاع مازوز من قيادة المنطقة الأولى بسبب علاقته العائلية بعمارة بوقلاز، وأوفد عبد القادر شابو محمد علاق وضابطا شابا اسمه صحراوي إلي المنطقة. واستشار شابو قادة النواحي، حداد عبد النور، قارة عبد القادر، والفاضل، حول من يخلف مازوز، فأشاروا عليه بالشاذلي بن جديد. وهكذا عينت قائدا للمنطقة الأولى. وتفاديا لاستفحال الأزمة كلفنا نحن قادة المنطقتين الأولى والثالثة بن سالم بالاتصال بمحمدي السعيد من أجل تنظيم لقاء بممثل عن الحكومة المؤقتة لتوضيح الأمور تجنبا لوقوع مواجهة بين الإخوة الأشقاء. وكان مازوز قد رفض الذهاب إلى تونس وطلب مني الذهاب بدله، وقبل ذلك حاول بوبير بولضويوي الانقلاب على قيادة المنطقة الأولى، لكن الجنود تصدوا لهما بإطلاق النارفي السماء ففرا إلى معسكر الزيتون، أو (جيش الجمهورية) كما كانوا يسمونه وربما كانا من الذين بلغنا الحكومة المؤقتة عن الانقلاب الوشيك. سافرنا أنا وعبد الرحمن بن سالم والزين نوبلي، رفقة محمدي السعيد الذي كان يتوقف للصلاة عند كل آذان، إلى تونس حيث كانت الجماعة مسجونة، وقابلنا هناك كريم بلقاسم وبن طوبال، وكان بوصوف غائبا. كان كريم وبن طوبال قد أقنعا العموري أن يطلب منا العودة للشرعية، ومازلت أذكر الكلمات التي قالها لنا مترجيا: (باسم الإخوة، باسم المجاهدين، باسم مبادئ الثورة ارجعوا إلى النظام وخلونا أحنا بين يدي الحكومة المؤقتة). طرحنا المشكلة على أعضاء الحكومة المؤقتة وأكدنا لهم أن الاجتماع كان مجرد اجتماع استشاري لإصلاح الأوضاع، لكن كريم بن طوبال أصرا على أن العموري وجماعته كانوا يخططون لانقلاب ضد قيادة الثورة خدمة لمصالح أجنبية. طلبنا منهم الإبقاء عليهم في السجن وعدم إعدامهم فوافقوا شرط أن نسلمهم أحمد دراية، الذي نجح في الإفلات من قبضة الحرس التونسي ودخل التراب الوطني. خلال اللقاء كان محمد الشريف مساعدية يقف بعيدا، يشير إليَّ وكأنه يريد أن يقول لا تصدقوهم. لاحظنا آثار التعذيب الذي مارسته مخابرات الثلاثي على وجه العموري. أما عواشرية فقد التفت إلى بن سالم، (أوصيك بالأولاد يا سي بن سالم) لا شك أنه كان يعرف المصير الذي ينتظره، وقيل أن بورقيبة عرض حمايته على العموري، لكن هذا الأخير رفض وفضل أن يسلم أمره لرفقاء السلاح. عدنا إلى التراب الوطني وسلمنا لهم كما اتفقنا دراية وبعد انتهاء التحقيق أسست محكمة برئاسة هواري بومدين، وكان علي منجلي مدعيا عاما بعضوية قائد أحمد والعقيد الصادق وأعدم العقيد العموري والعقيد نواورة والرائد عواشرية والنقيب مصطفى لكحل، وحكم على الآخرين بأحكام تتراوح بين أربعة أشهر وعامين سجنا، وستكون لهذه الإعدامات انعكاسات خطيرة على معنويات الضباط والجنود الذين لم يعودوا يثقون في الحكومة المؤقتة، وخاصة في الثلاثي، وستتكرر محاولات التمرد والانشقاق والعصيان. وحين استلم بومدين قيادة الأركان أطلق سراح بلهوشات ودراية ومساعدية ولخضر بلحاج وكلفهم مع عبد العزيز بوتفليقة بفتح جبهة في مالي. هكذا أنقذ بومدين الثورة من الانهيار والنعرات الجهوية عشية الاستقلال جاء في الفصل السادس لمذكرات بن جديد أن النصف الثاني من عام 1959 كان من أحلك المراحل التي مرت بها الثورة، وكان عصيان جبل الشعامبي في الولاية الأولى، واستسلام علي حبملي وتمرد حمة لولو، قبل أن أقنعه ب”العودة إلى النظام”، علامات على تفكك روابط القيادة بمسؤولي الوحدات القتالية. ويشرح الرئيس الراحل هنا “كانت حالة الجمود والفوضى العارمة في صفوف الوحدات المقاتلة على الحدود الشرقية نتيجة منطقية وطبيعية للصراع داخل الحكومة المؤقتة التي فشلت بعد مضي ستة أشهر على تشكيلها في ضمان الحد الأدنى من الانسجام والتنسيق بين أعضائها، وخاصة القيادة الثلاثية. كان بوصوف وكريم بلقاسم وبن طوبال يسعون، كل على طريقته، مع الاقتراب والتفاوض مع فرنسا، إلى السيطرة على جيش الحدود والقاعدة الشرقية، وكان كل واحد منهم يعتبر أن من يتحكم في هذا الجيش يتحكم في المستقبل السياسي للبلاد. ويضيف الشاذلي “ومن أجل تجاوز حالة الفوضى والعصيان والانسداد السياسي في هرم القيادة، بعد محاولة الانقلاب التي قام بها العقداء، تمت الدعوة إلى عقد لقاء تحكيمي في تونس حضره، إضافة إلى القيادة الثلاثية؛ سبعة عقداء هم: هواري بومدين ومحمدي السعيد عن أركان الغرب والشرق، حاج لخضر من الولاية الأولى، علي كافي من الولاية الثانية، يزوران من الولاية الثالثة، دهيلس من الولاية الرابعة، لطفي من الولاية الخامسة، وهؤلاء العقداء العشرة كانوا كلهم آنذاك خارج التراب الوطني دون استثناء، وكانت الأسباب الرئيسية التي استدعت ذلك الاجتماع الماراطوني تتلخص في ثلاثة، وهي الصراع بين بعض ولايات الداخل والقاعدة الشرقية، وإعدام عقداء حادثة الكاف وما انجر عنه من آثار وخيمة في استعداد الوحدات للقتال، إلى جانب تمرد وحدات القاعدة الشرقية والولاية الأولى. وانتهى العقداء إلى دعوة انعقاد الدورة الثالثة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية في طرابلس بين 16 ديسمبر و18 جانفي أسفرت عن نتائج سرعان ما لمسنا آثارها الإيجابية في الميدان، وأهمها إنشاء هيئة أركان عامة أسندت قيادتها إلى هواري بومدين، وضمت أيضا علي منجلي وقايد أحمد وعز الدين زراري، وإلغاء وزارة الحرب وتعويضها بلجنة وزارية للحرب شكلت من كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال، ووضع هذان القراران حدا نهائيا لتطلع كريم بلقاسم إلى الزعامة.(….) وقد نجح بومدين في فرض الانضباط والنظام، وأصبحت الوحدات تخضع إلى قيادة موحدة وممركزة بعدما كانت في السابق تدين بالولاء إلى مسؤوليها المباشرين. وبعد أن سلمت له الحكومة المؤقتة وحدات الولايات الثانية والثالثة والرابعة المجمدة على الحدود، قام بومدين بمزج الجنود والضباط، ونجح في تكوين جيش عصري جيد التدريب والتسليح تم نشره في المنطقة الشمالية للعمليات. ويعود الفضل، حسب مذكرات الشاذلي، إلى بومدين في تجاوز النعرات الإقليمية والقبلية التي كانت سائدة في صفوف الوحدات، فعملية مزج الجنود والضباط وإعادة انتشار الوحدات في مناطق جغرافية جديدة أدى إلى تفكيك ما يمكن أن نسميه الإقطاعات، ووضع حدا لعقلية أسياد الحرب التي نتجت عنها تمردات خطيرة. أزمة صيف 62.. إخوة السلاح يقتتلون يعود بن جديد إلى ظروف اندلاع “أزمة صيف 1962″، وأسباب الصراع بين قادة ثورة التحرير والحكومة المؤقتة آنذاك “سألني بومدين عن رأيي في الأوضاع، وكأنه يريد امتحاني فأجبته دون تردد (سي بومدين أنت تعرفني، وتعرف مواقفي، وتعرف أنني لن أتراجع.. لقد حكم علي بالإعدام عدة مرات ولا شيء يخيفني اليوم، لقد صمدنا أكثر من سبع سنوات في وجه الجيش الفرنسي، ولا أعتقد أن تلاعبات السياسيين ستوقفنا.. إذا تطلب الأمر أشهرا أخرى من الحرب فليكن.. يجب أن نتحرك بسرعة لتجنيب الشعب حربا أهلية”. ويضيف أيضا “كنت غائبا عن الطارف، مقر قيادة اللواء الذي كان يضم أفضل فيالق القاعدة الشرقية، حيث قررت قيادة الأركان العامة استدعاء فيالقها من الولايات الأولى والخامسة والسادسة من أجل دخول العاصمة وتخليصها من سيطرة الولاية الرابعة، فكلف خالد نزار بقيادة الفيلقين الحادي عشر والثالث عشر اللذين تكونا في المنطقة الأولى من القاعدة الشرقية (…) سار الفيلقان باتجاه مدينة بوسعادة، حيث كان هواري بومدين وعلي منجلي موجودين ويحضران لدخول الولاية الرابعة عن طريق سور الغزلان وقصر البخاري، وانضما إلى الفيالق الأخرى تحت قيادة الطاهر الزبيري. دارت معارك عنيفة ودامية بين الإخوة الأشقاء، لكن التفوق كان لقوات قيادة الأركان (…) وروى لي مسؤولو الفيلقين أن الجنود كانوا يتفادون المواجهة خصوصا بعد الهتافات التي سمعوا الشعب يرددها طول المسيرة إلى بوسعادة (سبع سنين بركات). وفي الوقت الذي كانت فيه الفيالق الموالية للقيادة العامة في بوسعادة تنتظر السير نحو العاصمة، كلفني هواري بومدين بتجهيز الفيالق المتبقية من الجمهرة وفيلقين من الولاية الثانية والتوجه إلى مدينة جيجل. دخلنا جيجل أنا والعربي برجم، وقمنا بتنصيب ستة فيالق بأعالي المدينة في ثكنة le camp chevalier التي أخلاها الجيش الفرنسي والفيلق السابع عشر في جبال تاكسنة. وكان سكان جيجل مندهشين وهم يشاهدون مدينتهم تتحول بين عشية وضحاها إلى ما يشبه ثكنة في الهواء الطلق. كنا في حالة استنفار دائم نتابع تطورات الوضع. وكان مجال تحركنا يمتد حتى سوق الاثنين. أي الحدود مع الولاية الثالثة. وقد حدد لي هواري بومدين مهمة واضحة ودقيقة وهي تحييد الولاية الثالثة. فقد كان يخشى أن تتحالف لجنة الاتصال والدفاع عن الجمهورية التي أسسها في تيزي وزو كريم بلقاسم ومحمد بوضياف مع الولاية الرابعة لاحتلال العاصمة. وكانت مهمتي تتمثل في احتلال القواعد الخلفية في بجاية وتيزي وزو والدخول من هناك إلى العاصمة في حال تحرك جنود الولاية الثالثة باتجاهها. في الأسبوع الأول من شهر أوت تم التوصل إلى اتفاق بين كريم بلقاسم بوضياف ومحند أولحاج من جهة، وممثل التحالف بن بلة وقيادة الأركان، أي ما عرف بجماعة تلمسان، من جهة أخرى. وقد لعب محند أولحاج دورا كبيرا في إقناع الأطراف المتصارعة بالإصغاء إلى لغة العقل ونبذ الأطماع وأفضى ذلك إلى الاعتراف بالمكتب السياسي كأعلى هيئة سياسية. وإثر ذلك اتصل بي هواري بومدين وأطلعني على فحوى الاتفاق وآخر تطورات انسحاب جنود الولاية الرابعة من العاصمة.