يوجد في كل حرب ثلاثة أطراف: رابح وخاسر وضحية، فمن الرابح ومن الخاسر ومن الضحية في الحرب على شمال دولة مالي؟ فرنسا لم تخسر، ولن تخسر أي شيء في هذه الحرب التي لا تشبه الحروب، فهي تخاض ضد سراب لأن الذباب لا يقتل بالمدفعية. قادة فرنسا كانوا يدركون جيدا بأن المجموعات الإرهابية ستختبئ أو تغادر شمال مالي بمجرد بدء الضربات الجوية للطيران الفرنسي، وهو ما حدث بالفعل، ما مكن الجيش الفرنسي من خوض حرب جوية وبرية بدون مواجهة. تقول تصريحات الرسميين الفرنسيين إن قواتهم ستغادر التراب المالي مع حلول شهر مارس المقبل. إن صح ذلك فهذا معناه أن فرنسا تكون قد ربحت الكثير من هذه الحرب دون أن تسجل أية خسارة، فمن بين ما حققه الرئيس هولاند لبلده نذكر ما يلي: أولا، خلّص جيشه من عقدة حرب الخليج الأولى، حيث ظهر الجيش الفرنسي وقتها في حالة مزرية من الضعف وعدم التأقلم مع الحروب. أثناء تلك الحرب كتب الكثير عن هزال القوات الفرنسية التي اقتصر دورها على ”الحراسة” مما جعل الصحافة الفرنسية، والكثير من السياسيين يوجهون وقتها نقدا لاذعا لقيادة جيشهم، وكان من أهم ما نشر، كتاب الجنرال (بيار ماري قالوا) Pierre-Marie GALLOIS الذي تساءل فيه عما إذا كانت فرنسا قد خرجت من التاريخ؟ في الحرب التي تجري اليوم على مالي، تمكنت القوات الفرنسية من التدرب في فضاء بمساحة تفوق التسعمائة ألف كيلومتر مربع وأن تبين للعالم أجمع بأن الجيش الفرنسي يستعيد أمجاده التي بدأت مع حروب نابليون وامتدت طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في ما عرف بحروب الاستعمار. الأمجاد، التي اصطدمت، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بحدثين تاريخيين بارزين هما: هزيمة ديان بيان فو وانتصار الثورة الجزائرية؛ ثانيا، كسب ود الحكومة المالية وحب كل سكان جنوب مالي، فقد ظهرت فرنسا، في هذه الحرب، في صورة البلد المحرر من الإرهاب والفارض لسلطة الحكومة المركزية على منطقة الشمال الغنية بالبترول واليورانيوم والأتربة الغنية وغيرها من الثروات الباطنية غير المكتشفة بعد. الود والحب، من شأنهما أن يمكنا فرنسا من التحكم في سياسة البلد والتصرف في ثرواته بدون منازع وذلك لعقود متتالية من الزمن؛ ثالثا، إضعاف العنصر العربي في شمال مالي مما يضعف كل الحركات الاحتجاجية ويقمع كل مطالب تحررية قد تؤثر على الوجود الفرنسي أو مصالح هذه الدولة مستقبلا؛ رابعا، تمكين الغير مسلمين من السيطرة على منطقة الشمال التي كانت عبر القرون الماضية منطقة إسلامية. يكفي التذكير هنا بأن مدينة تومبوكتو المالية كانت تشكل الضلع الثالث، إلى جانب مدينتي تلمسان في المغرب الأوسط، وفاس في المغرب الأقصى، في مثلث الإشعاع الثقافي في المنطقة قبل موجة الاستعمار التي بدأت باحتلال الجزائر في 1830؛ خامسا، إقامة قواعد عسكرية فرنسية دائمة بالقرب من الحدود الجنوبيةالجزائرية. هذا أهم ما حققته فرنسا، لحد الآن، من خلال تدخلها العسكري في شمال مالي، ولأن انتصار طرف معين، في الحروب وفي العلاقات الدولية، فيه دوما خسارة لطرف، أو أطراف أخرى، كما له ضحايا مباشرون أو غير مباشرين، فإن الضحية في هذه الحرب هي الجزائر التي تتمثل خسائرها في ما يلي: أولا، تفرض عليها بؤرة التوتر الناتجة عن التدخل العسكري الأجنبي ضغطا أمنيا كبيرا وخطيرا مما يجبرها على تخصيص قوات عسكرية وأمنية معتبرة لتأمين حدودها الجنوبية التي كانت دوما آمنة ومستقرة. المعروف أن العدو كان يأتي الجزائر، عبر القرون، من الشمال كما جاءها، بعد استعادة السيادة الوطنية، من الغرب، مما جعل كل جهود الدفاع في الجزائر مركزة، طوال خمسة عقود، على تحضير القوات الجزائرية لأية حرب قد تفرض عليها من هاتين الجهتين. الخطر الجديد الآتي من الجنوب، والذي أراه شخصيا، يدخل في إطار خطة أعدت لإضعاف الجزائر وضربها في قوت شعبها (البترول) لتفتيتها لاحقا، هذا الخطر يفرض تخصيص جهد بشري ومالي جدا معتبر، وقد يكون على حساب التنمية، لإعادة تهيئة منظومة الدفاع الوطني بما يستجيب للمستجدات على الحدود الجنوبية؛ ثانيا، فقدت الجزائر ثقة سكان شمال مالي الذين تمتد علاقاتهم ببلدنا إلى عمق التاريخ، حيث كانت القوافل الثقافية والتجارية والبعثات الطلابية تنتقل بين مدينة تومبوكتو ومدن شمال الجزائر، كما أن هناك من العائلات التي تعيش على الحدود بين البلدين من لها فروع في الجزائر وأخرى في مالي. سكان شمال مالي يشعرون وهم يعيشون تحت قصف الطيران الفرنسي، بأن الجزائر تخلت عنهم ولم تسع جادة لمنع التدخل العسكري الفرنسي الذي أحدث خللا في التوازن الذي كان قائما بين هؤلاء الشماليين المسلمين والجنوبيين المسيحيين والوثنيين؛ ثالثا، إضعاف دور الجزائر في إفريقيا هو تقوية لدور المملكة المغربية في هذه القارة مما سيؤثر مستقبلا على مصير القضية الصحراوية. قلنا أعلاه أنه يوجد في كل حرب ثلاثة أطراف: رابح وخاسر وضحايا، ورأينا كيف أن المنتصر هي فرنسا التي ربحت كل شيء، والخاسر هم سكان الشمال الذين فقدوا كل شيء، أما الضحية فهي الجزائر التي لم تدرك قبل الأوان كيف تخطط كالكبار حتى لا تعرض أمنها واستقرارها لأي مكروه؛ وفي كل هذا، تبقى المجموعات الإرهابية تنشط في المنطقة لإعطاء المبرر للتدخل العسكري كلما أرادت الدول الغربية ذلك.