يعود الفضل إلى الشيخ أحمد توفيق المدني، في إصدار مذكرات الحاج أحمد الشريف الزهار، نقيب أشراف العاصمة في القرن التاسع عشر(*). فقد تسلم مسودتها من حفيده الشيخ محمود وحرص على مراجعتها وإعدادها للنشر، مع الإضافات والهوامش اللازمة. تغطي هذه المذكرات الفترة من 1754 إلى 1830، أي من بداية عهد الداي علي باشا بوصباع، إلى سقوط مدينة الجزائر واستسلام الداي حسين وحاشيته. ويرجح الشيخ المدني أن الكتاب الذي بين أيدينا يشكل الجزء الثاني، من ثلاثية فقدت بدايتها وخاتمتها.. وقد تسلمه من حفيد الشاهد، في شكل مدعوة لم تكن جاهزة للنشر بعد، ما يؤكد ذلك صاحب المذكرات نفسه. وقد ارتأينا من خلال تناول هذه المذكرات، أن نقدم لقراء الفجر صورة معبرة عن العهد العثماني بالجزائر إلى حد ما، مع إيلاء اهتمام خاص ب: الداي محمد بن عثمان (1766 1791) الملقب بالمجاهد. الداي حسين (1818 1830) الذي نعرف من خلاله أسباب ووقائع احتلال الجزائر. نقيب أشراف الجزائر في سطور ولد الحاج أحمد الشريف الزهار بالجزائر سنة 1781، أيام الداي محمد بن عثمان باشا الملقب ب ”المجاهد”. بعد الدراسة وبلوغ سن الرشد اشتغل في إدارة الأمارة، وكان عمره عام احتلال الجزائر صائفة 1830 يناهز خمسين سنة، وكاد يسقط شهيدا في برج الحسن قلعة الجزائر عندما تعرض لقصف مدفعي مكثف من الغزاة، أدى إلى تدمير أجزاء هامة منه. في سنة 1832 هاجر إلى تونس، حيث استغل فرصة وجوده لتوسيع معارفه، بملازمة الشيخ إبراهيم الرياحي، لكن ما لبث أن عاد عبر قسنطينة، حيث تولى الكتابة في ديوان الحاج أحمد باي، إلى أن توقفت المقاومة بها سنة 1837. عقب ذلك التحق بالأمير عبد القادر، وتولى أمانته الخاصة، وكانت والدته من الأسيرات اللواتي تم ترحيلهن رفقة الأمير وعائلته إلى فرنسا، حيث مكثت هناك بضع سنوات. وبعد أن وضعت المقاومة أوزارها مؤقتا التحق بالمغرب، وأقام بعض الوقت بفاس، وأخيرا عاد إلى الجزائر ليشتغل بالتجارة، إلى جانب انتخابه على رأس نقابة الأشراف، وقد توفي ستة 1872، متجاوزا التسعين من العمر. قصة صالح باي ونكبته نكبة صالح باي قسنطينة، ما تزال مطبوعة في الذاكرة الجماعية المتوارثة كدليل على مكانة هذا الباي ورصيده لدى سكان شرق البلاد بصفة عامة.. ناهيك أن الأثر الشعبي يربط ظهور الملاءة السوداء بدل الحايك الأبيض بحزن نساء قسنطينةوعنابة خاصة على مقتله. في مذكرات الحاج أحمد الشريف الزهار، نجد شذرات من تراث صالح باي ومفتاح نكتبه في نفس الوقت. ولد صالح بن مصطفى أزميرلي بأزمير ( تركيا) سنة 1725.. وقد عينه الداي محمد بن عثمان باشا بايا على شرق البلاد سنة 1771، وكان عمره آنذاك 46 سنة. من منجزاته كقائد حربي متميز: دوره الحاسم في صد الحملة الإسبانية الأولى في عهد الداي محمد بن عثمان في العشر الأوائل من يوليو 1775 بقيادة الأميرال أوريلي.. وهذه نبذة عما أفادنا به صاحب المذكرات في هذا الصدد: جاء صالح باي قسنطينة في اليوم الرابع من المعركة من ناحية الوادي (الحراش) وقدم أمام اسبانيول عددا لايحصى من الإبل.. فلما قربت من تحصينات العدو ابتدأ القتال.. حمل صالح باي أولا بقومه وعسكره على هذه التحصينات، ثم لحقه الناس من كل النواحي فحملوا حملة رجل واحد، وأعلنوا كلمة التوحيد وارتفعت الأصوات بالتهليل فتزلزلت الجبال لحملتهم واقتحموا التحصينات.. وقد أجبر بقايا الإسبان على الإنسحاب مثخنين رافعين على سفنهم رايات سواء تعبيرا عن نكستهم.. أعلنت قبائل أولاد نايل ما بين مسيلة والأغواط مرورا ببوسعادة والجلفة العصيان، فسار إليها أولا السيد سفطة قائد تيطري، فعلبوه وقتلوه، ثم سار إليهم صالح باي فأرغمهم على الطاعة. ضم سنة 1788، إلى عمالته تقرت وضواحيها، وكانت قبل ذلك تحت حكم محلي برئاسة عائلة بني جلاب، ونعود إلى نكبة صالح باي التي ارتبطت أولا بتصدير الحبوب والأنعام إلى فرنسا خاصة من ميناء عنابة فقد حصل التاجران اليهوديان نفتالي بوشناق ويوسف بوخريص (باكري) على ترخيص بذلك من الخزناجي حسن، دون علم الداي محمد بن عثمان.. وبعد إبرام الصلح مع الإسبان سنة 1785 قدم صالح باي مهنئا.. فاختلى به الداي ذات يوم، وسأله عن موضوع التصدير هذا.. فأكد له الباي أن العملية جارية فعلا.. وهنا سأله الباشا: ألم يصلك كتابي بمنع ذلك؟ قال: بلا، لكن عقب ذلك تلقيت أمرا من الخزناجي بترك التصدير حرا، لمن يستظهر برسالة منه تتضمن الكميات المأذونة.. وقدم له بالمناسبة رسائل الخزناجي.. غضب الداي أشد الغضب، وأمره أن يوقف العملية فورا، إلا بأمر بخالف منه مباشرة.. كان الخزناجي من الحاشية المتسلطة التي يحلو لها احتواء الأمير، بدليل أن له بنتين، زوج الأولى لحسن وكيل الحرج (البحرية) الثانية لخنة دار الداي نفسه.. المهم أن الداي أطلق إشارة لوكيل الحرج في صهره الخزناجي، ففهما جيدا وكافه شره من غده! طبعا حزنت زوجة الوكيل وشقيقتها زوجة خرندار حزنا شديد على والدهما وبيتتا الإنتقام من صالح باي، بعد أن عرفتا أنه كان سببا في قتله.. وفي 12 يوليو 1791 توفي الداي محمد بن عثمان، فخلفه حسن الخزناجي الجديد الذي عين مكان حميه المقتول.. ويخبرنا صاحب المذكرات أن صالح باي جاء الجزائر في صيف تلك السنة لتقديم ما عليه من الضرائب والرسوم، وذات ليلة استضافه الداي حسن في داره على غير المألوف وبعد الضيافة إلبسه عمامة مبرجة.. فهم الباي من ذلك أن الداي يريد قتله والعمامة علامة كفنه.. وتأكد من ذلك عندما أمر وهو يودعه باش زرناجي أن يعرف أنغام ”لا حال يدوم”! كانت هذه الأنغام في مرحلة أولى إيذانا بعزل صالح باي مشفوع بحبسه بمجرد عودته إلى قسنطينة.. وتعيين قائد سباو مكانه.. لكن حاشية صالح باي وأنصاره في المخزن ثاروا لذلك، فقاموا بقتل الباي الجديد ومن رافقه من رجال عمراوه، وأعادوه إلى منصبه. غير أن هؤلاء الذين ثاروا له ما لبثوا أن انقلبوا عليه، بعد التأكد من أن ميزان القوة كان إلى جانب الداي وسلطته المركزية.. فهم الذين بادروا باعتقاله وتسليمه إلى علي برغل وكيل الحرج الجديد، وزوج البنت الثانية للخزناجي المقتول! ونترك لصاحب المذكرات فصل الختام وفي نكبة صالح باي. فصل يؤكد أن تعاطف أهالي شرق البلاد وحزن نسائهم عليه كان له ما يبرره.. يقول الشاهد: ... يحكي عن صالح باي، أنه كان رفيقا بالرعية، محسنا للفقراء، محبا للعلماء والصالحين، وكان له حرث كبير وأنعام كثيرة، يستعين بها على شؤونه المخزنية، وبنى مسجدا بقسنطينة وصرف عليه مالا وفيرا، وجعل له أوقافا كثيرة، وذكلك فعل بعنابة (جامع الباي في المدينة القديمة).. ويضيف: ”وكان مجاهدا.. واسمه طابق مسماه رحمه الله..”. الداي محمد بن عثمان المجاهد الزاهد يعتبر محمد بن عثمان من أشهر دايات العهد العثماني بالجزائر.. تول الإمارة سنة 1766، ولقب بالمجاهد لتفرغه لشؤون الدولة وانشغاله بأوضاع الشعب واهتمامه الشخصي بالجهاد البحري، كان متقشفا زاهدا، فضلا عن تعلمه وحزمه وعدوله حسب شهادة قنصل فرنسا رسالة إلى دولته بتاريخ 2 فبراير 1766. كان أعزب، فكثر حوله القيل والقال.. ولكي يضع حدا لذلك تزوج ليلة واحدة ثم طلق في الغد! وعلق على ذلك بقوله ”ها قد تزوجت! كي لا أموت أعزب، فأحشر مع الشياطين!”. من منجزاته: تحسين مد المدينة بالمياه التي أتى بها من الحامة وبنى لها ساقية.. وأمر وكيل الماء بتوزيعه على المساجد والثكنات، وعلى العيون المنتشرة بأزقة المدينة، ليتزود منها السكنات.. وكان تدفق المياه على المدينة ضعيفا قبل ذلك، حسب الشاهد. أعاد بناء المسجد العتيق، وجدده أحسن تجديد، كما بنى عدة أبراج (حصون) للجاهد ”أولها برج سردينة والبرج الجديد وبرج راس عمار”. شجع صناعة السفن الحربية وتحسين عتادها، وتعيين أحسن الرياس لقيادتها، كمازاد في مكافآت الرياس والبحارة، ووفر لهم أجورا شهرية، فضلا عن نصيبهم من الغنائم. ولهذا الداي باع طويل، في جهاد البحر، وصدا المعتدين بفضل هذه الاستعدادات والإصلاحات، فقد رد الإسبان مثلا على أعقابهم ثلاث مرات، في أقل من عقد من الزمن. الحملة الأولى كانت بأسطول قوامه 500 مركب حسب الشاهد، وتمت خلال الأيام العشر الأولى من يوليو 1775 بقيادة الأميرال أوريلي.. وشارك في الهجوم المصاد ودمر الإسبان خليفة باي وهران وصالح باي شخصيا من قسنطينة.. وكان لهذا الأخير الذي استعمل الإبل في هجومه دور رئيس في الإنتصار على المعتدين.. وقبل المعركة ذهل سكان الجزائر، لكثرة سفن الأسطول الإسباني الذي حجب البحر عن الأنظار، واعتقدوا أن لا قدرة للإمارة على صده، وما عليهم إلا الصبر والدعاء.. وأخذوا يقرأون ويتضرعون إلى الله، ثم صبروا وثبتوا حتى جاء النصر.. وحسب الشاهد دائما أن الأسرى كانوا كثيرين، وأن السماسرة كانوا يضاربون بأسعارهم: يشترون الواحد ب 200 دورو، وعندما يأتي الإسبان لافتداء أسراهم، يقبضون مقابله خمسة أضعاف! الحملة الإسبانية الثانية كانت بعد تمام سبع سنوات، وقادها الأميرال دون أنطونيو برثيلو.. وأحدثت دمارا بالمدينة، وتمكنت من هدم جامع السيدة الذي كان الداي قد جدّده.. وكان الهجوم المضاد بقيادة الحاج محمد القبطان الذي تمكن من تحطيم الهجوم، بعد ثلاثة أيام من المعارك البحري الطاحنة. الحملة الثالثة كانت سنة 1784 بقيادة نفس الأميرال، وردها على أعقابها نفس القبطان، أي الحاج محمد.. ويصف الشاهد استعداد المقاتلين الجزائريين لصدها قائلا ”.. يصلي الناس صلاة الجنازة على الخارجين للحرب، ويضجون بالدعاء والصلاة على النبي (ص). ثم يتقدم المجاهدون، يصحبهم الجواق وآلات الطرب، كأنهم خارجون للنزهة”. وفي سنة 1785، أي بعد سنة من الخيبة الإسبانية الثالثة، قدم وفد إسباني لطلب الصلح بقيادة الكونت دسبلي والأميرال مزاريدو، وتم ذلك فعلا بوساطة القنصل الفرنسي دوكورسي الذي نجح في تقريب وجهات النظر بين الجانبين. ويذكر الشاهد أن الصلح أبرم لمدة 100 سنة، وكان يخص البحر فقط.. ولم يكن ي عني وهران التي كانت يومئذ ما تزال تحت الاحتلال الإسباني، إلى أن حرّرها الداي حسن باشا الذي خلف محمد بن عثمان (1791).. مثل هذه التحديات المباشرة التي تستهدف الجزائر، لم تكن لتمنع الداي محمد بن عثمان من تلبية طلبات المدد التي كانت تأتيه من الخيفة العثماني باسطنبول.. فقد أرسل ما بين 1769 و1773 ثلاث تشكيلات من خمس قطع، قاد أولاها الرايس بن يونس، ومكثت تجاهد إلى جانب الأسطول العثماني خمس سنوات قبل العودة إلى الجزائر. وقاد التشكيلة الثانية محمد رايس، وقد اصطدمت بكثافة وجود أساطيل العدو، بدءا بالوحدات اليونانية، فاضطرت إلى العودة، بعد أن تعذر عليها الإتصال بقيادة الأسطول العثماني، وكانت التشكيلة الثالثة بقيادة الرايس الحاج سليمان.. وهذه أبلت البلاء الحسن في طريقها إلى البوسفور، قبل أن تشارك في محاربة الروس بالبحر الأسود.. إلى أن تم إبرام الصلح بين البلدين سنة 1774.