يرى الأستاذ جمال غريد أن سقوط الجزائر في الخامس من شهر جويلية سنة 1830 كان " نهاية لثلاثة قرون من الاحتلال التركي .وبانتهاء الدولة التركية ،التحق أهم مسئوليها وفي مقدمتهم الداي بالقسطنطينية " . إن هذا الحكم يتناقض ،كلية، مع حقيقة القرون الثلاثة التي تشهد سجلات التاريخ على أنها كانت فترة أمجاد وازدهار بالنسبة للجزائر، كما أنه يتناقض مع الخلاصة التي انتهى إليها الباحث والتي تؤكد أن المجتمع الجزائري الحالي إنما هو من إنتاج الإدارة الكولونيالية.فإذا سلمنا بأن القرون المذكورة هي "احتلال تركي" ، فإن المنطق يحتم علينا اعتبار الفعل الذي خلص الجزائر من الاحتلال لا يمكن إلا أن يكون محمودا وبالتالي فإن نتاجه لا يمكن إلا أن يكون إيجابيا، وتباعا بعيدا كل البعد عن واقع المجتمع الجزائري الحالي الذي يعاني من سائر أنواع المسخ الثقافي ويشكو الضياع بكل معانيه. ولأن صاحب الكتاب اعتمد أساسا ما كتبه أساتذة وتلاميذ مدرسة التاريخ الاستعمارية، فإنه أورد أن نظام الحكم في الجزائر كان، خلال القرون الثلاثة المذكورة، أجنبيا عن البلد وسكانه وهو الأمر الذي جعل هؤلاء الأخيرين لا يبالون بزواله. ولو أن السيد غريد اجتهد قليلا وعاد إلى الأرشيف الفرنسي نفسه لوجد كثيرا من الحقائق التي تدحض معلوماته . ويكفي هنا أن ندعوه، فقط، إلى الشرق الجزائري يتأمل الأغنية الشعبية التي ما زال يتغنى بها مئات آلاف الجزائريات والجزائريين والتي يقول مطلعها:" قالوا العرب قالوا.. لا نعطي صالح ولا نعطي مالو". مع الإشارة إلى أن المقصود هو صالح باي الذي حكم بايلك قسنطينة حوالي ربع قرن من الزمن ، كله مآثر جليلة وإنجازات مازال بعضها قائما يشهد على حسن سياسته وأخلاقه الكريمة .ومن بين تلك الانجازات تجدر الإشارة إلى المدرسة الكتانية التي شيدها سنة 1775 والتي يوجد بها ضريحه الذي يزوره المواطنون أمثالي إلى غاية هذا اليوم،والتي كانت مشتلة وطنية تخرج منها عدد كبير من إطارات ثورة نوفمبر 1954. ودائما في قسنطينة ، وفي سنة 1789 ،فإن الفضل يعود إليه في وجود الجامع الحنفي ومدرسة جامع سيدي لخضر، وتجديد القنطرة الكبيرة سنة 1792 .أما في عنابة ، فإنه شيد الجامع الكبير سنة 1791 الذي ما زال الزائر يقرأ على حائط القبلة فيه أبياتا شعرية راقية منها : به جاد تاج الدين والمجد "صالح". وقبل صالح باي كان هناك حسين باي الذي حكم الشرق الجزائري مدة ثمانية عشر عاما ( 1736-1754) واقترن اسمه بالجامع الأخضر الذي سيكون مركز إشعاع فكري وثقافي في عهد الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس الذي كتب على أعمدة "الشهاب" سنة 1938: "كان حسين على خطى أسلافه في سياسة التعمير والإنشاء،فنظم المدينة وخطط شوارعها.. وحافظ على توطيد الأمن طيلة مدة حكمه.وكما كان له ولع بالعمارة،كانت له عناية فائقة بالعلم ". وحتى نبقى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، لكن هذه المرة مع الدايات، نتوقف عند أحد العمالقة الذين خلد التاريخ أسماءهم بأحرف من ذهب ونعني بذلك الداي محمد عثمان الذي حكم الجزائر من سنة 1766 إلى سنة 1791 ، وتقول سجلات التاريخ إنه كان مبدعا خاصة في ميادين الحرب والتشييد والتعمير.فهو الذي قام بتطوير صناعة المراكب الحربية واستعمل ،لأول مرة، مراكب "اللنتشون"، وأقام الحصون والثكنات العديدة على غرار البرج الجديد وبرج السردينة بميناء العاصمة ، كما أنه أبدع في شؤون الري وتولى تصريف عين الحامة في قنوات المدينة وأوقف لصيانة ذلك جل أملاكه . وفي المجال الخارجي ، تجدر الإشارة إلى كثير المعاهدات التي أبرمها مع العديد من الدول الأوربية وكذلك الحروب التي تصدى لها بفضل تطوير الصناعة العسكرية التي سمحت له بتحقيق الانتصار النهائي في حرب العشر سنوات (1775-1785) التي واجهت فيها القوات الجزائرية قوات التحالف السويدي/الإنكليزي والإسباني ، والتي يقول السيد "كات" في كتابه "تاريخ الجزائر"الصفحة الثالثة والثمانين بعد المائة إنها "كلفت التحالف آلاف القتلى وجعلت إفريقيا الإسلامية تحتفل احتفالا كبيرا بانتصار القادر المجيد الداي محمد عثمان". ومن الذين كتبوا عن هذه الحرب،كذلك، المؤرخ الأمريكي بارنبي الذي أورد أن الجنرال O'Relly القائد الثاني للجيوش الإسبانية كان قد أشار على ضباطه أن " يصطحبوا معهم نساءهم وأولادهم ليشهدوا هزيمة الجزائريين " .ويقول بارنبي : لقد كانت الحرب ،فعلا، أكبر حرب بحرية أوربية حتى ذلك اليوم، لكنها كانت من أكبر الكوارث على إسبانيا".أما وزارة الحرب الفرنسية ،فإن مصالحها المختصة قد كتبت:" إن الأسبان قد تركوا وراءهم كثيرا من المدافع والعتاد ، وكان للجزائريين جيش كبير وقادة أكفاء ، وبرهن البايات على شجاعة نادرة وكان أكثرهم تألقا الداي محمد عثمان الذي كان مثال التبصر والحزم رغم تقدمه في السن " . ودائما في المجال الخارجي ، فإن الداي محمد عثمان قد وقع بتاريخ العاشر يونيو 1768 معاهدة تجارية مع الحكومة الفرنسية مؤكدا بذلك الاتفاقية المبرمة بين الطرفين عام 1694. وفي سنة 1772 وقع معاهدة سلم وتعاون مع دولة الدانمرك التي وافقت على دفع الجزية السنوية وما يتبعها من الهدايا والتحف. كما أنه أبرم مع بريطانيا، بتاريخ الخامس والعشرين مارس 1778، اتفاقا تجاريا خاصا بشراء مجموعة من الأسلحة الثقيلة التي تفتقر إليها البحرية الجزائرية على أن يكون الدفع بالقموح لا بالعملة. وفي الفترة ما بين 1774 و 1791، تدعمت العلاقات الجزائرية الفرنسية بالتوقيع على خمس معاهدات سلم وتعاون وتجارة،وتميزت بمراسلات خاصة بين حاكمي الدولتين ، نذكر منها،على سبيل المثال،رسالة الملك لويس السادس عشر بتاريخ 06/08/1775 يقول فيها إلى"السيد الأعظم " بابا محمد أن بيت شقيقه ازدان بمولود اسمه " دوق أونغلام"وهو نفسه الذي سيصبح "شارل العاشر".وبعد حوالي شهر، أي في الثاني سبتمبر كتب الداي أن " الخبر سرنا وابتهجنا له، ولا غرو في ذلك بالنظر إلى علاقات الصداقة التي تربطنا منذ أمد بعيد.نسأل العلي القدير أن يرزقكم أطفالا يقتدون بكم ويكونون خلفا صالحا لكم". وهناك رسالة أخرى من ذات لويس السادس عشر مؤرخة في 22/10/1781 جاء فيها:" إنني استعجل بإبلاغكم أن المولى قد أكرمني واستجاب لآمال فرنسا بميلاد الأمير الذي أنجبته لي زوجتي العزيزة " . أما ثقافيا ، فإن الداي محمد عثمان كان يجل العلماء ويشجع نشاطهم الفكري والأدبي.وعرف عنه بذل الجهود الكبيرة لرعاية مدن العلم والمعرفة مثل مازونة ومعسكر حيث ذاع صيت أمثال أبو راس محمد الناصري المعسكري صاحب "عجائب الأسفار"، والشيخ بن عبد الله المغيلي، والشيخ العربي بن النافلة،والشيخ عبد العزيز الثميني ،والشيخ أبو زكرياء يحي بن صالح ،والشيخ أحمد بن هطال صاحب "رحلة محمد الكبير" والشيخ أحمد بن سحنون صاحب " الثغر الجماني" وغيرهم من العلماء كثير، تألقوا في الدراسة والتدريس وفي خوض المعارك التي كان يقودها الداي بنفسه في سبيل تحرير مدينة وهران.ولقد ظل العلماء وتلاميذهم على هذه السيرة المؤازرة لنظام الحكم في الدفاع عن أرض الوطن بل تضاعف الإقبال على الجهاد في عهد حسن داي( خليفة الداي محمد عثمان) حيث سجل التاريخ استشهاد بعضهم مثل العلامة "بوعبدالله محمد بن الطاهر بن حواء" قاضي مدينة معسكر. معنى كل ذلك أن الداي محمد عثمان كان يحظى بثقة الجماهير الشعبية والأعيان في آن واحد ، وفي ذلك دحض للزعم القائل إن نظام الحكم في الجزائر كان معزولا عن الشعب.