نكتشف في الحلقة الثانية والأخيرة من مذكرات خيرالدين بربروس أن الوجود التركي العثماني بالجزائر لم يكن مرفوضا فقط من إسبانيا وحلفائها الأقوياء في أوروبا بدءا بقداسة البابا بل كان مثار تآمر من عدد من الأمراء المحليين وأشباههم الذين كانوا يحاولون إثارة النعرات ضد الأتراك وحكمهم بالجزائروتونس خاصة. ومع ذلك فقد صمد خيرالدين في وجه الإسبان الأقوياء وحلفائهم كما تصدى للمتأمرين معهم بكل من الجزائروتلمسانوتونس.. واستطاع رغم كل ذلك أن يواصل مهمة انقاذ المهاجرين من الأندلس مع الحرص على توطينهم وتوفير وسائل عيشهم واستقرارهم. وعندما اضطرته مشاغله وتقدم سنه على الإبتعاء عن الجزائر تركها مطمئنا لاسيما بعد أن تمكن إبنه حسن باي في خريف 1541 من دحر حملة الإمبراطور شارل كان عليها(*). تحطم غرور الإسبان بفضل خيرالدين وحسن باي كان على خيرالدين بربروس أن يواجه الموقف الحرج الناجم عن مقتل أخيه عروج بضواحي تلمسان سنة 1518 وكان عليه بصفة خاصة أن يتصدى للغرور الإسباني وعزم الإمبراطور شارل الخامس على تثمين هزيمة عروج باستعادة مدينة الجزائر وكثير من المدن الساحلية الأخرى بأقل التكاليف. فقد لجأ شارل كان إلى الحرب النفسية بإيفاد رسول إلى خيرالدين ليقول له باختصار ”من أنت حتى تقف بدون أخيك في وجه أقوى ملك مسيحي؟! إرحل فورا بسفنك ورجالك!” ويضيف مصعدا من تهديده ”هذا آخر إنذار.. سأعود إلى الجزائر قريبا فإذا وجدتك هناك فاعلم أن عاقبتك ستكون وخيمة”. قضى حاكم الجزائر الجديد فصل الشتاء في الإستعداد لرفع التحدي.. وما لبث أن تلقى دعما معنويا كبيرا من السلطان العثماني سليم الأول؛ تعيينه رسميا في منصبه مع الشارات الدالة على ذلك وهي الراية والسيف والخلعة (1). هذا الدعم المعنوي يعبر عنه بقوله: ”لن يتمكن الإسبان من إزعاجي بعد اليوم مادام السلطان يساندني فكل ما أطلبه منه لن يتردد في إجابتي بكرمه وعنايته. وفي هذا الإطار جمع عددا من أمراء العرب ليدعوهم إلى إعلان الولاء للسلطان سليم باعتباره خليفة المسلمين الذي يجب عليهم الخطبة بإسمه في المساجد فضلا عن صك النقود بخاتمه. طبعا ما لبث الأمبراطور شارل كان أن نفذ تهديده في أوت 1519 بتجهيز حملة على الجزائر اسند قيادتها إلى الأميرال هوغو دي مونتادا الذي حاصر المدينة بحرا بقوات مشتركة كان على رأسها أمراء من نابولي وصقلية وألمانيا وهولندا وبلجيكا وهي إمارات كانت تابعة لأسبانيا يومئذ. يقدر تعداد هذه القوات ب5 إلى 6 آلاف مقاتل أنزل الكثير منهم إلى شواطئ المدينة فتصدت لهم القوات المحلية وألحقت بهم خسائر جسيمة اضطرتهم إلى الفرار بعد استسلام العشرات منهم (2). ويقدر خيرالدين عدد الأسرى النصارى بالجزائر يومئذ ب 13 ألفا من بينهم 24 من كبار القادة (برتبة أميرال ).. وكان إلى جانب خيرالدين عدد من كبار رياس البحر يذكر منهم بصفة خاصة سنان وأيدين وصالح.. وقد اشتهر أيدين عند الإسبان بلقب ”كاشي ديابلو” أي رعب الشيطان! ويثني عن صالح رئيس وحيله الحربية بقوله ”أن بإمكانه أن يخرج الثعلب من جحره”!. تسلى الإسبان بقصف المآذن! واجه خيرالدين بالجزائر مشكلة حصن الصخرة (البنيون) الذي بناه الإسبان عند احتلال المدينة سنة 1510 عرض البحر على نحو 300 متر من الميناء وتقوم بحراسته حامية مجهزة بعشرات المدافع وكانت مقطوعة عن البر ولا تنزل إلى المدينة ويأتيها كل شيء من جزر الباليار حتى الماء الذي تشربه.. وقبل تحرير المدينة سنة 1516 وقيام حكم عروج بها كان جنود الحامية يتلسون بقصف المآذن عند سماع الآذان وكان على رأس هذه الحامية عجوز من النبلاء يدعى دون مرتين وهو قائد بحري سابق مشهور. في سنة 1529 قرر خيرالدين تحرير حصن الصخرة فطلب أولا من القائد العجوز تسليمه مقابل تأمين انسحاب الحامية لكنه رفض فأمر أثر ذلك بقصف الحصن واستمر ذلك 20 يوما ليلا ونهارا.. إلى أن تمكن من اقتحامه بعد معركة طاحنة أجبرت دون مارتين على الإستسلام رفقة 700 جندي حسب شهادة خيرالدين. وبعد استعادة الحصن جيء بقائد المدفعية الذي سبق أن دمر العديد من المآذن وقتل الكثير من المؤذنين فلما مثل أمام خيرالدين قال له: ”أنت رام ماهر كنت تدمر المأذن بقذيفة واحدة! أنظر الآن كيف يكون الرمي الحقيقي”! ثم أمر بوضعه في فوهة مدفع ليقذف به في البحر..! أمر عقب ذلك بنسف الحصن واستعمال صخوره لبناء كاسر أمواج حول الميناء.. ويعلق على هذا الإنجاز قائلا: ”وبهذا العمل تمكنا من بناء ميناء محمي جميل لمدينة الجزائر”.. وإذا كان عروج قد سقط في فخ تلمسان فإن شقيقه خيرالدين كاد يقع في فخ تونس.. حدث ذلك بعد أن عين سنة 1533 قائدا للأسطول العثماني مع الإحتفاظ بإمارة الجزائر فقد تحرك بعد نحو سنتين من ذلك باتجاه سردينيا ثم تونس.. فلما حل بهذه الأخيرة على رأس قطع من الأسطول هرب سلطانها الحفصي مولاي الحسن وسارع بطلب النجدة من شارل كان الذي كان يستشيط غيظا على خيرالدين لاسيما بعد أن أصبح أديدن رايس يتحرش بالسواحل الإسبانية ويعود منها ظافرا غانما.. قاد النجدة الإسبانية من برشلونة شارل كان شخصيا على رأس 500 قطعة بحرية بمساعدة الأميرال الجنوي الشهير اندريا دوريا. خاض خيرالدين مضطرا معركة غير متكافئة على جبهتين: الجبهة البحرية وتولاها سنان رايس الذي كلف بالدفاع عن قلعة حلق الوادي والصمود هناك أطول مدة ممكنة. الجبهة البرية وقادها خيرالدين بنفسه فقد اعتصم بالمدينة وطلب تدخل الأسطول العثماني حتى يجد امبراطور إسبانيا نفسه بين نارين. كان الإمبراطور يدرك هذا الإحتمال فسارع باحتلال القلعة غير آبه بخسائره الباهظة.. وقد تكبد فعلا خسائر فادحة منها مقتل إثنين من أشهر قادة الجيش الإسباني أمير سارنو وأمير مونديا.. وكان السلطان الحفصي من جهته قد أثار شعب تونس ضد خيرالدين وجيشه فوجد نفسه وسط محيط معاد بين ناري ”شارل كان من جهة ومولاي الحسن من جهة ثانية”.. أكثر من ذلك شهدت المعركة خيانة المتطوعين من البدو الذين ضنوا أن ميزان القوة كان لصالح الإسبان وقاموا في هذا الصدد خاصة بفتح أبواب السجون للإفراج عن نحو 10آلاف أسير نصراني.. اضطر خيرالدين وجنوده إلى الإنسحاب مثخنين عبر خليج تونس وفقد في هذا الإنسحاب باتجاه عنابة البطل أيدين رايس الذي استشهد غرقا. ورغم أن الإسبان جاؤوا تونس لنجدة السلطان الحفصي فقد استباحوا المدينة وضواحيها وفتكوا بنحو 30 ألف مسلم.. ويؤكد ذلك المؤرخ ابن أبي الضياف الذي ذكر أن الصليبيين طمسوا معالم المدينة تماما وأبادوا ثلث سكانها وحبسوا ثلث آخر..”.. كان ذلك في صائفة 1535.. لم يهنأ شارل كان بهذا النصر كثيرا إذ سرعان ما استعاد خيرالدين عافيته وحيويته فخرج غازيا باتجاه ميوركة ومينوركة وعبر مضيق جبل طارق ليضرب ميناء ”فارو” جنوب البرتغال.. وأكثر من ذلك استولى إبنه حسن باي على قلعة جبل طارق واتخذها منطلقا للإغارة على الأراضي الإسبانية ذاتها.. حسن باشا.. ينجح في امتحان شارل كان تفرغ خيرالدين عقب ذلك لمهامه على رأس الأسطول العثماني وترك الأمر بالجزائر لإبنه حسن باي بمساعدة عدد من الرياس البارزين.. لذا عندما قاد الإمبراطور شارل كان حملته الأخيرة في خريف 1541 لم يجد خيرالدين بانتظاره بل وجد ابنه ونائبه فقط.. ما جعل هزيمته أشد وطأ وأكثر إيلاما.. قدم التحالف الصليبي على رأس 516 سفينة حربية تحمل على متنها أكثر من 13 ألف بحار مقاتل وزهاء 24 ألف جندي من المشاة يضاف إليها عدد من الوحدات الخاصة المختلفة.. كان هذا التحالف معتدا بقوته متأكدا من احتلال الجزائر مجددا الأمر الذي دفع إلى المشاركة في هذه الحملة مشاهير الأمراء والنبلاء من إسبانيا وإيطاليا وألمانيا.. عبر شارلكان عن هذا الإعتداد في رسالة ترهيب ووعيد إلى حسن باي يخاطبه فيها بقوله: ”أنا ملك إسبانيا ونابولي وصقلية وهولندا وبلجيكا وأمريكا وإمبراطورية ألمانيا.. ألق بسلاحك وأتيني بمفاتيح الجزائر. وسوف أعفو عنك إذا قدمت علي وقبلت الأرض بين يدي!”. وكان جواب حسن باي: ”قلعة الجزائر ليست ملكا لي حتى أسلمها لك ولن أمكنك من بلد مولانا السلطان سليمان الأول (القانوني) لأبوء بخسارة الدنيا والآخرة”.. فوجئ الإمبراطور في اليوم الأول من المواجهة بالمقاومة الباسلة لقوات حسن باي.. ومع ذلك كان متأكدا من سقوط الجزائر في اليوم الثاني إلى درجة أن قواته احتفلت ليلا بالنصر المنتظر..! لكن دفاع المدينة ما لبث أن حول فرحتهم إلى مندبة بشن هجوم مفاجئ في ليلة سادها ظلام دامس نذيرا بعاصفة هوجاء انهالت على المعتدين بقصف من البرد في حجم حبات البيض.. وتلا ذلك هجوم ثان في منتصف الليل جعل شارل كان يراجع حساباته رأسا على عقب فقد كان يتوجس نجدة من الأسطول العثماني ففضل الإنسحاب واستغل حسن باي عملية الإنسحاب الفوضوي ليعمق جراح المعتدين بقيادة الأميرال أندريا دوريا بهجوم مباغت اندفع للمشاركة فيه آلاف من البدو من تلقاء أنفسهم. ويقدم خيرالدين جانبا من حصيلة هذه الحملة الصليبية الخائبة قائلا: ” مدينة الجزائر ازدادت غنى بغنائم هذه الحملة”.. هذا التصدي الناجح لتلك الحملة الكبرى ابتداءا من 20 أكتوبر1541 تم تحت ضغط أعيان الجزائر الذين كانوا يريدون حمل حسن باي على الإستسلام خوفا من تكرار مأساة تونس قبل ست سنوات. حنكة وصرامة في مواجهة الإضطرابات الداخلية لم يكن الوضع الداخلي بالجزائر ومحيطها شرقا وغربا مستقرا في فترة حكم خيرالدين بربروس ولحسن الحظ أن سكان المدينة كانوا متعاطفين مع الأتراك العثمانيين لأنهم استطاعوا توفير الأمن والإستقرار وقدرا من الرخاء بفضل ازدهار النشاط التجاري خاصة. ويتطرق خيرالدين إلى فضل الأتراك على البلد بقوله ”إن سكان الجزائر يعرفون جيدا قيمة النعمة التي يعيشون في كنفها منذ أن نزلنا بينهم.. فقد استطعنا أن نوحد إمارات وقبائل هذا البلد الكبير وأمن المسلمون من ظلم الإسبان فصاروا أحرارا يسيرون مرفوعي الرؤوس لاسيما بعد أن أصبحوا في رعاية أكبر سلاطين العالم”.. لكن الوضع السياسي مغاربيا بصفة عامة لم يكن متماشيا مع هذه الصورة الشعبية.. ويكشف خيرالدين في هذا الصدد عن نزعة مناهضة للأتراك لدى عدد من الأمراء بتونسوتلمسان وجبال زواوة خاصة. يقول الشاهد في تقدير الوضع: ”منذ حلولنا بالجزائر أصحبنا مضطرين إلى الإنشغال بالأمراء المحليين وأشباههم في الجزائروتونس والمغرب.. الذين كانوا مستائين من وجودنا”. ورأيه أن ملوك الحفصيين بتونس وبني عبد الواد بتلمسان لم تعد لهم أهمية تذكر عكس مملكة المغرب التي احتفظت بأهمية نسبية. وبناء على توجس هؤلاء الأمراء من الوجود العثماني بالجزائر أصبحوا لا يتحرجون من التحالف مع الإسبان وحبك المؤامرات ضده سرا وعلانية.. وقد حجز خيرالدين في هذا الإطار رسالة من سلطان تونس إلى نظيره بتلمسان مما جاء فيها: ”علينا أن نحتاط من خيرالدين ونكون يدا واحدة إزاءه.. وينبغي ألا نستقدم مزيدا من الأتراك إلى إفريقيا بعد الآن”. وبلغ خيرالدين أن سلطان تلمسان بدوره أخذ يناور مع سلطان المغرب ويثير الناس على الوجود العثماني رغم حمايته من الإعتداءات الإسباية الدورية على إمارته. وفي جبال زواوة كان أبو العباس أحمد ابن القاضي وفيا للأخوة بربروس بعد أن ساهم في استقدامهم إلى الجزائر رغم محاولات سلطان تونس إثارته عليهم.. لكن إبنه ووريثه على إمارة كوكو (3) تجاوب مع هذا التحريض التونسي فأصبح بذلك عامل ازعاج كبير لخيرالدين بالجزائر حتى اضطر إلى الإنسحاب مؤقتا نحو جيجل ولم يتمكن من فك عقدة هذا الأمير إلا سنة 1525.. هذه القلاقل والفتن المحلية والجهوية لم تمنع خيرالدين من مواصلة إغاثة اللاجئين من الأندلس عملا بأوامر السلطان سليمان القانوني الذي حذا حذو والده وجده في هذا المضمار ومن أعماله في هذا الإطار: إسكان 2285 مهاجر بنواحي مستغانم بعد أن وهبهم أراضي لاستصلاحها والعمل بها.. وكانوا حسب قوله عمالا وحرفيين مهرة. إسكان 800 مهاجر آخر بضواحي الجزائر كان أتى بهم سنان رايس في غزوة له بمضيق جبل طارق.. وقد أمر لهم خيرالدين بكل ما يحتاجون إليه من مؤونة ولوازم لتسيير استقرارهم. مجموعات أخرى تم توطينها بالجزائر أيضا بعد أن جاء بهم أدين رايس من ضواحي غرناطة.. بعد هزيمة شارل كان الأخيرة في أكتوبر 1541 اطمأن خيرالدين لمقدرة ابنه وخليفته حسن باشا على ضد ما يمكن أن يستهدف الجزائر من المخططات الإسبانية الصليبية وبناء على ذلك تفرغ لمهامه باعتباره قائدا عاما للأسطول العثماني وقد كلف في إطار معاهدة تحالف مع فرنسا سنتي 1543 و1544 بمساعدة الملك فرانسوا الأول لطرد الإسبان من مدينتي نيس وتولون.. وبعد هذه العملية فضل استراحة المجاهد لاسيما أن الكبر قد داهمه إلى أن حظي بالراحة الأبدية في 4 يوليو 1546.. وقد دفن ناحية باشكتاش على مضيق البوسفور تنفيذا لرغبته في قطعة أرض كان اشتراها لهذا الغرض. (انتهى) (*) طالع الفجر عدد 13 فيفري الجاري (1) اللباس الأميري الرسمي (2) يقدر خيرالدين عدد الأسرى ب 700 إلى 800 أسير (3) إمارة شرق الأربعاء ناث إيراثن (تيزي وزو).