تمثل مذكرات (*) الرئيس علي كافي، مساهمة جديرة بالاهتمام من ذوي الإختصاص، لما جاء فيها من مادة تاريخية خام، سواء على لسانه كشاهد - من 1946 إلى 1962 - أم من خلال الكم الهام من الوثائق المرفقة التي تشكل ثلث صفحات الكتاب تقريبا. ضمن الرئيس الراحل الجزء الأول من مذكراته - إلى غاية 1962 - أراءه في كثير من الأحداث والقضايا التي عاشها عن كثب، وكان يشفع ذلك في كثير من الأحيان بأحكام قاطعة، أحكام قد نتفق أو نختلف معها، لكن لا يمكن إلا أن نحترمها، لصدورها عن شاهد فاعل كان في طليعة شباب الجزائر الثائر، على مدى نحو عقدين من الزمن التاريخي المائج. وفي هذه الحلقة الأولى حول مذكراته، ارتأينا الوقوف عند بعض اللحظات التي تخصه مباشرة مثل: - انضباطه وشجاعته الأدبية. - تفطنه المبكر لهوس السلطة لدى العقيد هواري بومدين ورفاقه. - قصته مع الرئيس أحمد بن بلة، وهي من فصلين: مكتب مجلس الثورة وبعثة الحكومة المؤقتة في القاهرة.
استفسار حول شرعية ”اللجنة الدائمة للثورة” تولى العقيد علي كافي قيادة الولاية الثانية من أبريل 1957 إلى أواخر مارس 1959، وكانت أطول فترة قياسا بسابقيه الثلاثة: - مراد ديدوش: شهران و18 يوما. - يوسف زيغود: 18 شهرا. - سليمانب طوبال: 8 أشهر. وخلف كافي بن طوبال الذي خرج إلى تونس، رفقة بالقاسم كريم وبن يوسف بن خدة عضوي لجنة التنسيق والتنفيذ التي قررت أثناء حصار العاصمة مطلع 1957، الانتقال إلى الخارج. ويمكن أن نسجل له خلال اقيادته للولاية حقيقتين، تعبر عنهما مذكراته والوثائق العديدة المرفقة بها: أ- تمسكه بشرعية قيادة الثورة.. على سبيل المثال تلقى غداة نداء ”سلم الشجعان” في 23 أكتوبر 1958 عرضا ”بالتفاوض” المباشر -على الاستسلام- من أركان الجيش الفرنسي، فكان رده: ”نحن قيادة عسكرية والمفاوضات تتطلب مشاركة المسؤولين السياسيين”.. أي أن أي اتصال في هذا الشأن، لا يكون إلا مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. ب- شجاعته الأدبية: يظهر ذلك بوضوح في أول رسالة له إلى الحكومة المؤقتة، إثر الإعلان عنها في 19 سبتمبر 1958، وتلقي بياناتها وقراراتها الأولى. تحمل الرسالة تاريخ 19 أكتوبر من نفس السنة، ومن أهم النقاط الواردة فيها: -1 تعليق على قرار فاتح أكتوبر بتأسيس هيئتي أركان الشرق والغرب قيادة العقيدين السعيد محمدي وهواري بومدين. فقد جاء في الرسالة مايلي: ”نساند القرار، لكن نتحفظ على المسؤولين المعنيين على رأس الهيئتين للأسباب التالية: - وجودهم داخل الجزائر أهم وأجدى. - سبق لهؤلاء المسؤولين أن كانوا علي رأس قيادة العمليات العسكرية (كوم)، دون تحقيق نتيجة تذكر الهيئة منذ تأسيسها (أبريل 58)، لم تمد أية ولاية بأية قطعة سلاح. - نطالب بدخول أعضاء هيئتي أركان الشرق والغرب في جولات مراقبة، لمعاينة الواقع والتعرف على الميدان، وتنسيق العمليات العسكرية على الصعيد الوطني. - نحيطكم علما أن القيادة العليا للجيش ينبغي أن تستقر بالداخل. ويؤكد الرئيس كافي في مذكراته، أن قيادة الولاية الثانية لم تعترف قط بهيئات الأركان التي كانت تحاول أن تقود جيش التحرير انطلاقا من المناطق الحدودية الشرقية؛ فكانت بذلك تراسل الحكومة المؤقتة مباشرة دون المرور بواسطة هذه الهيئات. -2 استفسار حول شرعية ”اللجنة الدائمة للثورة”: للتذكير أن هذه اللجنة كانت ظهرت غداة تشكيل لجنة التنسيق والتفنيذ الثانية في أوت 1957، كسلطة عليا فعلية مشكلة من المسؤولين ”العسكريين” في اللجنة - إلى جانب السلطة العليا الشرعية ممثلة في المجلس الوطني للثورة الجزائرية”. ورد ذكر هذه اللجنة في بيانات الحكومة المؤقتة الى قيادة الولاية الثانية، وجاء الاستفسار في رسالة 19 أكتوبر 58 بالصيغة التالية: - هل تحولت لجنة التنسيق والتنفيذ -بعد تشكيل الحكومة المؤقتة- إلى ”لجنة دائمة للثورة”؟ - مادامت الحكومة المؤقتة مسؤولة أمام مجلس الثورة، فلماذا تكون مسؤولة كذلك أمام ” اللجنة الدائمة”؟! وطالبت قيادة الولاية في نفس الرسالة بتحديد عدد أعضاء مجلس الثورة وأفادتها بقائمتها إذا أمكن، وأبدت من جهة أخرى الملاحظة التالية على الإعلام الخارجي: ”أن الإعلام الخارجي الذي يبث عبر الإذاعات العربية، لا يقدم صورة وافية عن كفاح الشعب الجزائري”.
هوس السلطة... لدى العقيد بومدين أثبت الرئيس علي كافي - كما تؤكد ذلك الوثائق المرفقة بمذكراته - أنه لم يكن في أمانة المجلس الوطني للثورة الجزائرية مجرد ”خشبة مسندة”، أو مجرد ”بنك” حسب تعبير الشهيد لطفي في رسالته إليه! للتذكير أن العقيد كافي أنتجت في أمانة مجلس الثورة رفقة الفقيد محمد الصديق بن يحيى وعمر بوداود -خلال دورة أوت 1961، واستمرت هذه الأمانة في مهامها خلال دورة مايو- يونيو 1962 كذلك. هذه الأمانة -المتميزة بعناصرها- لم تكتف بدور الأمانة التقنية المكلفة بتصريف أمور المجلس ما بين دورتين، بل حاولت القيام بدور سياسي كما تبين الشواهد التالية: 1 - تقرير الأمانة إلى بن خدة في 1961/11/30. اجتمعت أمانة مجلس الثورة يومي 27 و28 نوفمبر 1961 وأعدت تقريرا - بعد نحو ثلاثة أشهر من انتخابها - وجهته إلى رئيس الحكومة الجديد بن يوسف بن خدة، يتضمن التقرير المرسل بتاريخ 30 نوفمبر ملاحظات، حول التباطؤ في تطبيق قرارات الدورة السابقة لمجلس الثورة، لا سيما المتعلقة منها بدعم المجهود الحربي، وإمداد جيش التحرير في الداخل. وكان العقيد كافي قد قدم استقالته من الأمانة في 19 نوفمبر، احتجاجا على هذه الوضعية بالذات، لكن ما لبث أن تراجع عنها، بإلحاح من زميله بن يحيى. -2 دور الأمانة في أزمة الحكومة المؤقتة -هيئة الأركان العامة: يذكر الرئيس كافي في مذكراته أنه تفطن مبكرا لهوس السلطة لدي العقيد هواري بومدين، فقد زار الرباط في صائفة 1959 والتقى به هناك، فبادره قائلا: ”سمعنا أشياء كثيرة عنك أثناء رحلتك بالمشرق، حتى أنني استنتجت أنك أصبحت من جماعة كريم”! وكان العقيد كافي قد رافق غدة خروجه من الجزائر في ربيع نفس السنة، كلا من رئيس الحكومة فرحات عباس ونائبه كريم، في زيارة لبعض الأقطار العربية. وعلم كافي لاحقا من بعض جنو د الولاية الثانية في المراكز الحدودية الشرقية، أن نآئب بومدين الرائد علي منجلي كان يخطب فيهم من حين لآخر، محرضا إياهم على جيش التحرير في الداخل بقوله: ”الداخل لا يمثل شيئا! أنتم مستقبل البلاد!”. أبلغ كافي بو الصوف بذلك، فشكلت لجنة تحقيق في الموضوع من الاثنين مع إضافة بن طوبال ومهري.. زارت اللجنة بومدين في غارديماو، فلما أخبرته بما يصدر عن منجلي تظاهر بالمفاجأة.. واستدعى نائبه، فأكد أمامهم بكل بساطة ما نسب إليه! وهكذا عادت اللجنة من حيث أتت! في أواخر نوفمبر 1961 تفاقمت أزمة هيئة الأركان العامة مع الحكومة المؤقتة بعد أن كانت هيئة الأركان قد فتحت النار على الحكومة - وكريم على نحو خاص - في رسالة الإستقالة بتاريخ 15 يوليو من نفس السنة، وأمام هذه التطورات الخطيرة، بادر كافي ورفيقاه بتوجيه رسالة إلى القادة السجناء في قصر ”توركان”: بن بلة، بوضياف، خيضر، آيت أحمد وبيطاط. تتضمن الرسالة دعوة الخمسة إلى التوسط، ”لحل أزمة باتت تصدم جميع الجزائريين هنا”، وتناشدهم الإستعانة في ذلك ”بالوزن المعنوي”.. الذي يمكن توظيفه بفعالية في خدمة المصلحة الوطنية”... ويطلب مكتب مجلس الثورة من سجناء ”توركان” التكفل بأزمة، يمكن أن تشهد تطورات خطيرة.. والتدخل مباشرة لتسويتها”، ويضع نفسه في ذات الوقت تحت تصرفهم، لمساعدتهم في مهمتهم. طبعا لم يتدخل الخمسة لتسوية الأزمة، كما التمس منهم ذلك مكتب مجلس الثورة، لأن سباق السلطة المبكر بين الخمسة أنفسهم! - مالبث أن حال دون ذلك.
قصة العقيد كافي.. مع الرئيس بن بلة للعقيد علي كافي قصة مع الرئيس أحمد بن بلة من موقعين اثنين: مكتب مجلس الثورة، بوعثة الحكومة المؤقتة بالقاهرة التي عين على رأسها في سبتمبر 1961، خلفا للشيخ أحمد توفيق المدني. أولا: اصطدم مجلس الثورة في آخر دورة له بطرابلس - من 27 مايو إلى 6 يونيو 1962 بمشكل تعيين ”مكتب سياسي” كجهاز سياسي - تنفيذي مرشح لخلافة الحكومة المؤقتة قبل إعلان الإستقلال. وخلاصة المشكل أن الكتلة القوية التي كونها تحالف هيئة الأركان العامة مع أحمد بن بلة نائب رئيس الحكومة المؤقتة، اقترحت التشكيلة السباعية التالية: الخمسة + السعيدي محمدي والحاج بن علا. فازت التشكيلة السباعية بالأفضلية - قياسا ب 9 و11.. وحظي الخمسة (بن بلة، بوضياف، خيضر، آيت أحمد، بيطاط) بالإجماع.. لكن مشاورات الكواليس كشفت عن اختلاف كبير حول الاثنين الآخرين. ولتجاوز هذا الانسداد اجتمع 22 عضوا في مجلس الثورة، يمثلون ولايات الداخل واتحاديات فرنسا، تونس والمغرب، فضلا عن اعضاء في الحكومة ومكتب المجلس، بنية اقتراح تشكيلة للمكتب السياسي، يمكن أن تحوز على إجماع واسع. اعتمدت المجموعة -حسب الرئيس كافي- في سعيها هذا على مبادئ ثلاث: 1 - احترام الشرعية - ممثلة في مجلس الثورة والحكومة المؤقتة. 2 - تجنب القطيعة - في قيادة الثورة - فوق تراب ليبيا المضياف. 3 - تكذيب مضاربات العدو الذي كان يتوقع بعد رحيله، أن تسود الفوضى في الجزائر. اتفقت المجموعة في نهاية المطاف على الإحتفاظ بالخمسة والحاج بن علا، مع استبدال كريم بمحمدي السعيد، تم ذلك بعد تنازل بن طوبال وبوالصوف، تيسيرا لتجاوز الإنسداد. كلّف العقيد كافي بعرض الإتفاق على بن بلة الذي اقتنع عن طيب خاطر، بعد ساعتين من الأخذ والرد. لكن في ذات الليلة تطوع لنفس هذه الموافقة الرائد رابح بلوصيف من مجلس الولاية الثانية الذي سارع بالإتصال ببن بلة محذرا: ”لا توهم نفسك..! لقد اتفقوا ضدك!”. وبناء على ذلك، تحرك هذا الأخير وانصاره لنسف دورة مجلس الثورة، ومن ورائها مؤسسات الثورة كلها. ثانيا: في أواخر يونيو 1962، تلقي العقيد علي كافي رئيس بعثة الحكومة المؤقتة بالقاهرة مكالفة من ديوان الرئيس جمال عبد الناصر، تشعره بوصول وشيك لبن بلة. كان رد رئيس البعثة: بن بلة نائب رئيس الحكومة المؤقتة، وبإمكانه أن يتصل بي مباشرة لتبليغ موعد وصوله.. حل بن بلة بالقاهرة -قادما من بنغازي- واستقبله الرئيس المصري، بدون حضور كافي خلافا للأعراف الدبلوماسية.. وعرف هذا الأخير لاحقا، أن عبد الناصر نصح ضيفه أن يدخل الجزائر بدون تأخير، حتى يتجنب مصير صالح بن يوسف مع بورقيبة، واعدا إياه بمساعدة عسكرية، وكانت هذه المساعدة عبارة عن باخرة أسلحة، أنزلت حمولتها بوهران، رغم احتجاج رئيس بعثة الحكومة المؤقتة على ذلك. قابل بن بلة كافي بعد اجتماعه بالرئيس عبد الناصر، فعرض عليه الولاء مقابل تعيينه ”مندوبا للحكومة بكامل الشرق الأوسط” (!) فأفهمه كافي أن مثل هذا الشأن من صلاحيات سعد دحلب وزير الخارجية، ومن الأحسن أن يأتي مثل هذا الإقتراح عن طريقه! عاود بن بلة الكرة، فعرض عليه أن يرافقه إلى تلمسان، وهنا لم يكتف كافي بالإعتذار، بل ذهب إلى حد تنبيه الرئيس المحتمل، إلى خطورة مثل هذا التصرف الذي سيؤدي حتما إلى حرب أهلية... وهكذا لم يذهب كافي إلى تلمسان التي كانت يومئذ قبلة الطامحين إلى مكان تحت الشمس في عهد الإستقلال، بدءا بالرئيس فرحات عباس... لم ينس الرئيس بن بلة لكافي موقفه ذلك، فتعمد إهانته خلال حفل الإستقبال الذي أقامه بقصر الشعب فاتح نوفمبر 1962.. غضب كافي لذلك، وفكر في تقديم استقالته. لكن بومدين استغل الحادث ليشجعه على الثبات، وسعى لتعويضه عن القاهرة، بسفارة الجزائرالجديدة في بيروت... (يتبع) (*) عن النسخة الفرنسية، دار القصبة، الجزائر 2002.