كان المناضل الكبير محمد خيضر أمين عام المكتب السياسي لجبهة التحرير - من يوليو 62 إلى أبريل 63 - قبيل اغتياله، يسعى لتكتل المعارضين لنظام العقيد هواري بومدين قائد انقلاب 19 يونيو 1965، ويشجع على ذلك متعهدا بوضع ما بقي من ”كنز جبهة التحرير” (بضعة ملايين دولار) تحت تصرف هذا التكتل(*) هذا التكتل كان يبدو خطيرا أول وهلة، لأنه يضم شخصيات ذات رصيد تاريخي ونضالي، وله استداد داخل البلاد، بل كان يحاول - عن طريق العقيد محمد شعباني - أن يحد له امتدادا داخل الجيش الوطني الشعبي الركيزة الأساسية لنظام بومدين. كانت الإتصالات جارية منذ أواخر 1963 - للجمع بين : - محمد بوضياف متزعم حركة باسم ”حزب الثورة الإشتراكية” - حسين آيت أحمد قائد حركة سياسية عسكرية باسم ”جبهة القوى الإشتراكية”، - الرائد موسى حساني منشط بؤرة مسلحة في الشمال القسنطيني، - العقيد محمد شعباني الذي كان غداة مؤتمر جبهة التحرير الوطني - منتصف أبريل 1964 - في شبه تمرد، بعد أن رفض عضوية المكتب السياسي التي كان يرى فيها مناورة لأبعاده عن معاقل في الولاية السادسة سابقا- وأكثر من ذلك كان هذا التجمع مرشحا لاستقطاب معارضين آخرين، نذكر منهم: - محمد البجاوي الرئيس السابق لإتحادية جبهة التحرير بفرنسا، ومن أقطاب النضال الناقدين بالجزائر العاصمة - بالقاسم كريم أحد الشخصيات القوية في قيادة الثورة قبل الإستقلال. - أحمد مهساس المناضل المعروف الذي ترك وزارة الفلاحة والتحق بالخارج غاضبا. - البشير بومعزة الذي حذا حذو مهساس، بعد أن ترك وزارة الإعلام في خريف 1966... ولعل السر في اغتيال خيضر بمدريد مطلع 1967 يعود إلى هذه المساعي بالذات، ومحاولة تمويل المعارضة بما بقي لديه من كنز جبهة التحرير”... رهان 10 ملايين دولار ارتبط إسم محمد خيضر غداة الإستقلال بقضية ”كنز جبهة التحرير الوطني”، ترى ما حقيقة هذه القضية؟ وهل كانت من أسباب إغتياله بمدريد في 3 يناير 1967؟ تفاصيل هذه القضية نجدها في كتاب المناضل محمد البجاوي (1) الذي كان وسيطا فيها بين خيضر والرئيس أحمد بن بلة رفقة اثنين آخرين هما الزبير بوعجاج وأحمد آيت الحسين. بدأت هذه القضية في خريف 1962، غداة انتخاب المجلس التأسيسي وتعيين حكومة الإستقلال الأولى برئاسة أحمد بن بلة، كان محمدخيضر يومئذ أمينا عاما للمكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، وأمين ماله في نفس الوقت، وبهذه الصفة كلف باستعادة الأموال المودعة في البنوك الأجنبية من عهد الثورة، ويتعلق الأمر أساسا بودائع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، واتحادية جبهة التحرير بفرنسا. قام خيضر بجولة عربية لهذا الغرض، كانت حصيلتها 30 مليون فرنك، أودعها بإسمه في البنك العربي ببيروت، وعرج على سويسرا ليتسلم عن الإتحادية 15 مليون فرنك، قام بإيداعها - بإسمه أيضا - في فرع جنيف للبنك التجاري العربي. لكن ترى لماذا أودع خيضر هذه المبالغ بإسمه؟ يجيب البجاوي عن ذلك: ”بأن الخزينة الجزائرية لم تكن حينئذ انفصلت بعد عن الخزينة الفرنسية”... لكن هل كانت مهمة خيضر قبل تشكيل الحكومة؟ فإذا تمت فعلا قبل ذلك، يمكن استساغة مثل هذا التفسير... لأنه في الحالة الثانية، كان من المفروض أن يتولى المهمة وزير المالية الدكتور أحمد فرنسيس... ومهما يكن فإن الإجراء كانوا يبدو مؤقتا، في ظرف كانت الجزائر تحت الحاجة المالية الشديدة. لكن حدث في أبريل 1963، أن قدم خيضر استقالته في إطارصفقة طريفة - كما سبقت الإشارة في الحلقة السابقة - توسط فيها سفير مصر بالجزائر آنذاك علي خشبة...غادر خيضر الجزائر بعض الوقت، وفي تلك الأثناء قام بتحويل معظم المبلغ المودع في بيروت إلى جنيف، علم الرئيس بن بلة بذلك، فطلب من البنك العربي ببيروت، تجميد الرصيد المودع لديه بإسم خيضر. اعتبر هذا الأخير الإجراء خرقا لإتفاق الربيع الماضي، وغضب أكثر لما في هذا الإجراء من طعن في نزاهته وتشكيك في مصداقيته، وعبر عن غضبه، بمقاطعة التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر جبهة التحرير، لأن هذا المؤتمر لن يكون ديموقراطيا في تقديره... كان خيضر قد عاد إلى الجزائر عشية الإنتخابات الرئاسية - المنتظرة في 15 سبتمبر 1963 - عاد مهددا بعقد مؤتمر صحفي، يعرض خلاله خلافاته مع المرشح لهذه الرئاسيات.. وخشي بن بلة أن يفسد عليه عرسه، وتدخل الوسطاء من جديد بينهما، فتم الإتفاق على الحل التالي: أن يوقع بن بلة وكالة لخيضر، برفع التجميد عن الرصيدين المذكورين، على أن يرافقه آيت الحسين أمين المال الجديد للمكتب السياسي، بهدف استعادة الأموال المودعة ببيروتوجنيف. كان خيضر يضمر شرا، لأنه علم قبل ذلك بأن بن بلة أمر شرطة الحدود بمنعه من مغادرة التراب الوطني .. فكان ينوي استعمال الوكالة لضرب عصفورين بحجر: التمكن من مغادرة البلاد، واستعادة حرية التصرف في الأموال محل الخلاف. لذا ترك رفيقه آيت الحسين في تونس، وطاربمفرده إلى جنيف ليفعل بهذه الأموال ما يشاء! نسف مساعي لجنة الوساطة كان محمد خيضر وهو يغادر الجزائر لآخر مرة يبيت لأمر خطير، استعمال ودائع الحكومة المؤقتة واتحادية فرنسا سابقا (نحو 10 ملايين دولار) لتمويل المعارضة المتصاعدة ضد الرئيس أحمد بن بلة ونظام حكمه المترنح! كانت هذه المعارضة يومئذ في طور التكوين سياسيا وعسكريا: دشنها محمد بوضياف سياسيا غداة انتخاب المجلس التأسيسي في 20 سبتمبر 1962 بتشكيل ”حزب الثورة الإشتراكية”، وكان يومئذ ما يزال منفيا بغرب البلاد. تلاه حسين آيت أحمد بتأسيس جبهة القوى الإشتراكية، بعد تمام أسبوعين من انتخاب بن بلة رئيسا للجمهورية، واكتست معارضته طابعا سياسيا عسكريا في آن واحد.. ومالبث أن التحق بالصف المعارض الرائد موسى حساني الذي أسس بؤرة مسلحة شمال قسنطينة في انتظار التحاق شخصيات أخرى، كانت تتحفز للأمر، من أمثال بلقاسم كريم والعقيد محمد شعباني الذي دخل في شبه تمرد عسكري ابتداء من يونيو 1964.. مثل هذه التشكيلات السياسية العسكرية، باتت تمثل تهديدا ما للنظام القائم يستوجب ردا سريعا من رئيسه.. بادرت حكومة بن بلة هذه المرة بمقاضاة خيضر، والبنوك المعنية لدى المحاكم السويسرية التي قررت الحجز على الودائع في يوليو 1964. لم يكن القرار هذا يعني كبير شيء، لأن خيضر سبق أن سحب جل المبالغ المودعة بإسمه، أسبوعا قبل تبليغ البنوك بالقرار المذكور كانت المبالغ الواقعة تحت طائلة الحجز متواضعة، الأمر الذي أثار استغراب الحكومة الجزائرية: في فرع جنيف للبنك التجاري العربي، لم يبق من الرصيد سوى (100) ألف فرنك سويسري. وفي فرع البنك العربي بزوريخ، كان المبلغ الباقي مليون فرنك سويسري فقط. هذه المبالغ المتواضعة، كانت مثار جدل بين الحكومة والبنك التجاري خاصة، لأن بياناتها تؤكد أن المبلغ المودع لديه إلى غاية مايو 1963 كان في حدود 40 مليون فرنك سويسري.. أمام هذه الوضعية وتداعياتها السلبية على سمعة الجزائر حديثة العهد باستعادة استقلالها بادر محمد البجاوي بتأسيس لجنة وساطة، منه وكل من الزبير بوعجاج، وأحمد آيت الحسين.. هدف اللجنة محصور في تسوية مشكلة أموال الثورة لاغير.. بعد موافقة الطرفين على مسعى هذه اللجنة، تمكنت من عقد عدد من الإجتماعات بخيضر، انتهت إلى توقيع محضر محادثات من أهم ما جاء فيه: أن يدلي الرئيس بن بلة بتصريح يبرئ فيه ساحته من تهمة السرقة، فضلا عن تسوية بعض المشاكل الجانبية، مثل قضية فرانسوا جونو الصديق السابق لكل من خيضر وبن بلة الذي كان يومئذ محل متابعات قضائية في الجزائر: وفي المقابل، يتعهد خيضر بتسليم الأموال المودعة بإسمه، إلى المؤتمر القادم لجبهة التحرير.. وفي انتظار ذلك يتم تجميد هذه الأموال، تحت توقيع كل من خيضر وأيت الحسين وبوعجاج.. تدخلت اللجنة لدى الرئيس بن بلة على أساس هذه الشروط، فأدلى بتصريح حسب مراد خيضر.. غير أن رياح صائفة 1964 ما لبثت أن حملت معها مزيدا من التأزم، في علاقات الرئيس بن بلة بمعارضيه بصفة عامة.. تجلى ذلك في شن هجوم من خيضر على الرئيس بن بلة من ألمانيا، ردا على ما تسرب إليه، بأنه ينوي استصدار حكم عليه بالإعدام من محكمة الجزائر، فضلا عن رفع دعوى عليه أمام العدالة السويسرية... خيضر بن بلة الخطأ... الأخير تأزم علاقة الرئيس أحمد بن بلة بأطراف المعارضة في صائفة 1964، لم يكن ليترك مجالا مقبولا للحوارات في صورتين لفتحي الديب سفير مصر لدى سويسرا تبين أن الوضع كان خطيرا فعلا.. في جلسة مطولة بلوزان مع خيضر يوم 19 أوت، نقل عنه ما ينبئ بذلك، ويمكن اختصار إشارات خيضر في النقاط التالية: أنه سلم المعارضة جزءا من ”كنز جبهة التحرير”، وأنه رفض عرضا بمساعدة المعارضة من الملك الحسن الثاني.. أن انحياز مصر إلى الرئيس بن بلة سوف يقطع عليها طريق التعاون مع الجزائر، في حال وصول المعارضة إلى الحكم(!) رجاه في الختام أن يتدخل لدى بن بلة، لتجنب إعدام شعباني ومحمد خيري وعبد الرحمان فارس... الصورة الثانية ينقلها الديب عن لقاء له مع الرئيس بن بلة في الجزائر، بعد 48 ساعة من إجتماعه بخيضر.. يقول ”الوسيط” المصري أنه وجد بن بلة متصلبا في موقفه، واثقا من تحكمه في الوضع.. وأخبره بالمناسبة أن لديه وثائق تدين شعباني وخيضر وآخرين بتدبير محاولة انقلاب.. يتولى في حالة نجاحها فرحات عباس رئاسة الجمهورية، وخيضر رئاسة الحكومة، وشعباني وزارة الدفاع...! الإنقلاب الذي توهمه الرئيس بن بلة من هؤلاء، حصل في نهاية المطاف من حليفه الرئيسي هواري بومدين وزير الدفاع نائب رئيس مجلس الوزراء! قائد انقلاب 19 يونيو 1965 يعرف جيدا موقف خيضر منه، وشديد معارضته لأولويته العسكرية على السياسية”! هذا الموقف لم ينتظر خيضر طويلا لتأكيده: قد سارع بإدانة الإنقلاب والدكتاتورية العسكرية، وأكثر من ذلك تناسى خلافاته مع الرئيس المطاح به، مطالبا بالإفراج عنه! مثل هذه المواقف يبدو أنه أنست قائد الإنقلاب موضوع الأرصدة المودعة في سويسرا، كما أنسته مهلة 3 أشهر لتحديد موقف حكومته، بوقف أو مواصلة الإجراء القضائي الذي قامت به الحكومة السابقة.. بعد انتهاء هذه المهملة رفعت السلطات القضائية السويسرية الحجز عن تلك الأرصدة، استنادا إلى صمت النظام الجديد، فضلا عن تصريح الرئيس السابق بتبرئة ساحة خيضر من تهمة النصب.. استعاد خيضر بناءا على ذلك حرية التصرف في ”كنز جبهة التحرير”، وأصبح لا يخفي نواياه بتوظيفه في توحيد معارضة النظام الجديد! وكان ذلك يعني تكتل كل من خيضر وآيت أحمد وبوضياف، وحتى محمد البجاوي، في انتظار بلقاسم كريم.. وربما أحمد مهساس والبشير بومعزة اللذين تخليا عن وزارتيهما في خريف 1966.. ومن أخطر ما صرح به في هذا الشأن ”في حالة قيام لجنة تحرير وطني أو حكومة مؤقتة، سأضع في متناولها كامل الرصيد الذي اتصرف فيه! طبعا كانت يد النظام الجديد أطول وأسرع، فاغتيل خيضر قبل حصول اتفاق بين أطراف المعارضة، على هذا الحل أو ذلك.. كان ذلك بمدريد في 3 يناير 1967. رفع آيت أحمد ومحمد البجاوي دعوى على الجاني المفترض (يوسف دخموش)، لكن السلطات الإسبانية فضلت التعتيم على القضية والإسراع بطي الملف.. لكن ملف ”كنز جبهة التحرير” لم يطو إلا في بداية عهد الرئيس الشاذلي بن جديد ويعود الفضل في ذلك إلى الفقيد الذي أوصى أسرته بأن الرصيد الذي في البنوك بإسمه ليس من حر ماله، وإلى أسرته التي لم تبخل رغم الجراح بمساعدتها كي تستعيد الدولة الجزائرية هذا الرصيد.. أو ما بقي منه. ويعود الفضل أخيرا إلى وزير الخارجية محمد الصديق بن يحي الذي كلف عميد المحامين قدور ساطور سنة 1979 بمتابعة هذا الملف الشائك المعقد.. وقد توصل في ذلك إلى اتفاق مع أسرة خيضر، تستعيد الحكومة الجزائرية بموجبه أهلية التصرف عن هذا الكنز التاريخي.. (انتهى) (*) طالع الفجر، أعداد 10 و 17 و 24 يوليو الجاري (1) حقائق حول الثورة الجزائرية (بالفرنسية)، منشورات الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، الجزائر2010.