نفق في الحلقة الثانية من حديثنا عن العقيد الحاج لخضر (محمد الطاهر عبيدي) عند جوانب أخرى من مسيرته في الجهادين الأصغر والأكبر، انطلاقا من كتاب الأستاذين عمر تابليت وصالح بن فليس...(*) لقد نجح الرائد عميروش مبعوث لجنة التنسيق والتنفيذ إلى الولاية الأولى جزئيا في مهمته، بتنصيب قيادة للمنطقة الأولى قابلة للتجدد، كما يؤكد ذلك بروز اثنين من عناصرها، وتوليهما مقاليد الأمور في الولاية، ونعني بهما العقيدين محمد العموري والحاج لخضر.. هذا الأخير تولى عمليا القيادة بالنيابة ابتداء من يونيو 1958، ولعب دورا هاما على الصعيدين الداخلي والخارجي: داخليا بالتمهيد لترتيب البيت الأوراسي- وسط وغرب الولاية خاصة - بالتصدي الصارح لمجموعات “المشوشون” الخارجين على جبهة وجيش التحرير معا ... ووضع نواة إدارية استطاعت أن تؤدي دورها، رغم الصعوبات الجبهة المفروضة من جيش الإحتلال .. ولا أدل على ذلك، من استمرار مصلحة “الإشارة للولاية في أداء مهمتها بشكل عاد تقريبا، إلى غاية ايقاف القتال في 19 مارس 1962. خارجيا بالمشاركة في “اجتماع العقداء العشرة” صائفة وخريف 1959، هذا الإجتماع الذي أسفر عن تجديد “المجلس الوطني للثورة الجزائرية” وتعيين حكومة جديدة برئاسة فرحات عباس. ظل العقيد الحاج لخضر طوال السنوات الأخيرة من عمر الثورة المسلحة وفيا للشرعية القائمة ممثلة في مجلس الثورة والحكومة المؤقتة.. وأثر سقوط هذه الشرعية، فجر الإستقلال لم يجد بدا من الإنضمام إلى كتلة تلمسان ودخول الصف في أعقاب خلفه العقيد الطاهر الزبيري الذي دخل منذ الوهلة الأولى في ركاب هيئة الأركان العامة وغطائها التاريخي الرئيس أحمد بن بلة... الحاج يرشح عجول لقيادة الولاية! مهدت مهمة الرائد عميروش بالولاية الأولى لحل معضلة القيادة فيها، أثر صعوبة ملء الفراغ الناجم عن استشهاد مصطفى بن بولعيد ليلة 23 مارس 1956، وتجسد هذا التمهيد في تعيين قيادتي المنطقتين الأولى والثانية خاصة... وقد شكلت قيادة الأولى كمايلي: - النقيب محمد العموري قائدا؛ - المكي حيحي نائبا سياسيا؛ - الحاج لخضر (محمد الطاهر عبيدي) نائبا عسكريا؛ - يوسف اليعلاوي مكلفا بالإتصال والأخبار. اتخذ النقيب العموري من جبل الرفاعة(بلزمة) مقرا لقيادة المنطقة. لكن لفترة قصيرة فقط.. لأن العموري وجد نفسه في الطريق إلى تونس، بأمر من قائد الولاية الثالثة السعيد محمدي - باسم لجنة التنسيق والتنفيذ - وقد تلقى الأمر في اجتماع هذا الأخير بمسؤولي المنطقتين الأولى والثانية ناحية موقة وثامقره أواخر ديسمبر 56 وأوائل يناير 57.. كان هذا القرار طبعا، في إطار البحث عن قيادة منسجمة لولاية أوراس، النمامشة، كما سنتبين ذلك لاحقا. غير أن الحاج لخضر (الملازم الأول) - الذي حضر تلك السلسلة من الإجتماعات بوادي الصومام- نظر إلى هذا القرار من زاوية أخرى: حرمان الولاية الأولى من خدمات مسؤول كفؤ، مؤهل لجمع كلمتها من جديد، لتستأنف أداء دورها في ثورة التحرير... مثل هذا التحفظ، جعل الحاج يغيب عن الشوط الأخير من حل مشكل القيادة بتونس، وهو الشوط الذي تم تحت إشراف العقيد عمار أوعمران - المكلف بالشؤون العسكرية في الوفد الخارجي - وأسفر عن تعيين العقيد محمود الشريف على رأس الولاية، والرائد العموري نائبا سياسيا له ... تسارعت الأحداث بعد ذلك، لتضع الحاج لخضر بعد أشهر قليلة على رأس المنطقة الأولى، إثر إستشهاد قائدها النقيب المكي حيحي... بل على رأس الولاية - بالنيابة- عقب استشهاد النائب السابق علي النمر (ملاح) أواخر ربيع 1958، وبقاء قيادة الولاية في تونس، وكان على رأسها أنذاك العقيد أحمد أنواورة. وقبل تولي هذا المنصب المرموق، خاض الحاج في أبريل المنصرم معركة جبل أولاد حناش التي حضرها - صدفة - العقيد عميروش قائد الولاية الثالثة، وقادها الملازم الأول محمد حجار المسؤول العسكري للمنطقة. وسبب المعركة اكتشاف العدو لتجمع ضخم من وحدات الولايتين المتجاورتين، ومحاولة حصار هذه الوحدات المكونة من عدة كتائب، منها كتائب أمداد قادمة من تونس، تحمل أسلحة متنوعة خفيفة وثقيلة. وقد سقط في هذه المعركة (63) شهيدا، وأصيب خلالها 45 مجاهدا آخر بجروح متفاوتة... وقد دفع العدو الثمن غاليا مقابل ذلك. حرص خرافي على أموال الثورة! يقول المجاهد مسعود بن عبيد أمين منظمة المجاهدين بباتنة عن الحاج لخضر “أنه على قدر من الخشونة، يميل إلى معالجة الأمور بطريقة عسكرية، ويحب النظام والإنضباط، ويبغض الفوضى...” لكن الظروف رفعت من هذا “العسكري الخشن” لتنصيبه على رأس ولاية أوراس- النمامشة ، ابتداء من أواخر ربيع 1958، كما سبقت الإشارة. لم يكن تعيين الحاج لخضر في منصبه هذا منتظرا ولا مرغوبا... وقد استقبل بنوع من التحفظ - إن لم نقل الرفض - على مستوى المنطقة الثانية خاصة التي تمثل قلب الولاية عمليا، ومقر قيادتها المركزية. كان على رأس المنطقة يومئذ النقيب حسين بن عبد السلام، فاستقبله بفتور وعدم اكتراث، وكذلك فعل مسؤول ناحية كيمل، الحاج عبد المجيد عبد الصمد، من قدماء الهند الصينية.. ومن رجالات فاتح نوفمبر تحفظ عليه مصطفى بوستة ومحمد الشريف بن عكشة ...ومعهم نحو 100 مسلح من عرشي التوابة وبني بوسليمان...وإذا كان هذا حال عناصر جبهة، وجيش التحرير، فما عسى أن كون موقف الخارجين عليهما من مختلف أعراش الأوراس الأشم؟! هذا الإستقبال المتحفظ - أو الرافض - لم يصد الحاج عن أداء مهمته، بالوسائل المتاحة والقرارات الجريئة.. من هذه القرارات: - نقل بن عبد السلام إلى المنطقة الأولى، وتعيين يوسف اليعلاوي بدله في الثانية.. وكان هذا الأخير نائبا للحاج في الأولى.. - تحويل الحاج عبد الصمد إلى المنطقة السادسة (النمامشة) التي كانت عمليا خارج نفوذه، لتوثيق إرتباط مسؤوليها بقيادة الثورة على الشريط الحدودي. - تحويل بن عكشة ومن معه إلى الولاية السادسة، دون سابق تنسيق كاف مع العقيد الحواس الذي اعتبرهم - في مراسلاته - “متمردين” على الولاية الأصلية.. وقد نال بن عكشة وعدد من رفاقه الشهادة في جبيل ثامر، رفقة العقيدين عميروش والحواس يوم 28 مارس 1959... - التصدي إلى “المشوشين”، بدءا بجماعة الشريف رابحي الذي خلف مسعود عايسي على رأس فريق منهم. هذه القرارات الجريئة - رغم الإرتباك الظرفي الناجم عنها - لم تمنع الحاج من الإضطلاع بمسؤوليته القيادية، وفرض إرادته على الجميع، أحب من أحب وكره من كره.. فقد استطاع أن يرتب البيت شيئا فشيئا، ويبقى الأوراس الأشم شامخا أمام العدو ومخططاته.. ونجح بصفة خاصة في تأمين أجهزة اتصالاته اللاسكلية، فضلا عن تأمين مضامين هذه الإتصالات. مثلا كانت الولايتان الثالثة والسادسة كثيرا ما تستعينان بأجهزة الأولى، للإتصال بالحكومة المؤقتة، أو لجنة التنسيق والتنفيذ قبلها. وكان الحاج وهو يقود ولايته أسطورة في الحفاظ على أموال الثورة.. ويروي في هذا السياق منصور رحال مسؤول مصلحة الإشارة بالولاية، أن القائد فاجأهم ذات ليلة وهم يطالعون بعض الجرائد القديمة على ضوء الشموع.. فانهال عليهم توبيخا وتهديدا مرددا “أهكذا تبددون أموال الثورة أيها الخبثاء؟!”. ذيول “المكيدة الزرقاء” في الأوراس في سبتمبر 1958 تلقى الحاج لخضر دعوة من العقيد عميروش قائد الولاية الثالثة، لحضور اجتماع تنسيقي بين عقداء الداخل.. لبى الدعوة وتحرك للإلتحاق بالثالثة، حيث علم أن الإجتماع المنتظر تقرر عقده في الثانية. استغرقت الرحلة إلى مقر الإجتماع بدائرة الطاهير (جيجل) قرابة شهرين.. وعقد الإجتماع فعلا ما بين 6 و12 ديسمبر من نفس السنة، بمشاركة كل من العقداء عميروش وأحمد بوقرة وسي الحواس والحاج لخضر... واكتفت الولاية الثانية باستضافة الإجتماع دون المشاركة فيه، لأسباب شرحها قائد الولاية آنذاك علي كافي بالتفصيل في مذكراته (1) وقد سجلت خلاصة الإجتماع في برقية إلى الحكومة المؤقتة، تم إرسالها عبر لاسلكي الولاية الأولى في 5 فبراير 1959.. ومن القرارات الهامة التي تخص أوراس النمامشة، مساعدتها عسكريا لكسر شوكة المجموعات المسلحة الخارجية عليها فوق ترابها، وهي المجموعات التي كان يطلق عليها وصف “المشوشون” وعاد الحاج لخضر من الإجتماع أيضا بقائمة، تضم عناصر يشبه ضلوعها في “المؤامرة الزرقاء” حسب تحريات قائد الولاية الثالثة الذي كان أخيرا في 3 أوت المنصرم نظراءه باكتشاف هذه المكيدة، وبوجود امتدادات لها في معظم الولايات، بل حتى في نظام الثورة بكل من تونس والمغرب! وبمجرد عودة الحاج إلى ولايته كون لجنة تحقيق في القائمة من مصطفى بالنوي وحمومة قادري.. انتهت في تحرياتها إلى إسقاط الشبهات، وأن المسألة بالولاية تكمن في وجود تكتلات على أساس قبلي، أو الإشتراك في الإستياء من إدراة الحاج لشؤون الولاية لا غير.. وانحصر الأمر أخيرا في إعدام (6) من المشتبه فيهم، تبين لاحقا أن (5) منهم كانوا أبرياء... وفي نفس الفترة تقريبا، تلقى قائد الولاية بالنيابة استدعاء من قيادة أركان الشرق، للمشاركة في اجتماع آخر بتونس يضم عقداء من الداخل والخارج هذه المرة.. وهو الإجتماع الذي اشتهر باجتماع العقداء العشرة الذي تحول عمليا إلى لجنة، لتحضير دورة المجلس الوطني للثورة الجزائرية من 16/ 12/ 59 إلى 18/ 1/ 1960. من قرارات الدورة تشكيل لجنة وزارية للحزب من “الباءات الثلاثة” أي بلقاسم كريم وكل من بوالصوف وبن طوبال شكلت هذه اللجنة بالتشاور مع هيئة الأركان العامة الجديدة، مجلسا للولاية الأولى من: العقيد الحاج لخضر قائدا الرائد عمار راجعي نائبا سياسيا الرائد الطاهر الزبيري نائبا عسكريا الرائد علي السويعي نائبا للإتصال والأخبار الرائد مصطفى (بالنوي) مراردة مكلفا مؤقتا بقيادة الولاية في الداخل تمركز مجلس الولاية الجديد ناحية تامسميدة قبالة بوشبكة في التراب الجزائري، ومن هناك أخذ يحاول اقتحام “حدائق جهنم” المتمثل في خطي شارل وموريس.. تمكن إثنان من عبور الخطين، وهما على التوالي السويعي والزبيري، وسقط راجعي صعقا في خط موريس، بينما فشل قائد الولاية في ذلك.. حاول الحاج لخضر أن يقتحم خط شال بالقوة: قرابة فيلق مدجج بمختلف الأسلحة الفردية والجماعية الخفيفة والثقيلة.. ورغم إشارات مساعديه عليه تتقسم قوته إلى أفواج أو فصائل لتسهيل عملية التسلل، وإلا أنه رفض ذلك، وأبى إلا أن يجرب امتحان القوة، ففشل فيه كذا من مرة تسببت محاولات الحاج الفاشلة التي استغرقت قراب (4) أشهر في إحباط وإرهاق حاد استجوب نقله إلى سويسرا للعلاج والإستراحة.. ترى ما كان موقف الحاج لخضر في سباق السلطة بين هيئة الأركان العامة والحكومة المؤقتة ابتداء من صائفة 1961؟ كان قائد الولاية الأولى محسوبا على كتلة بلقاسم كريم، بحكم سابق علاقاته الوطيدة بقيادة الولاية الثالثة في عهد كل من السعيد محمدي وعميروش.. ثم أصبح محسوبا على الحكومة المؤقتة بصفة عامة.. وفي مطلع 1962، عند احتدام الصراع بين الكتلتين (الحكومة المؤقتة وتحالف بن بلة بومدين شكل العقيد الطاهر الزبيري مجلس ولاية جديد، مالبث أن انحاز إلى صف هيئة الأركان، وغطائها التاريخي أحمد بن بلة.. هذا الإنحياز لم يمنع الحاج من الحفاظ على ولائه للكريم والكومة المؤقتة، حتى آخر لحظة: اجتماع مجلس الثورة بطرابلس في دورته الأخيرة (مايو يونيو 1962). وغداة استفتاء تقرير المصير وإعلان استقلال الجزائر، سارع الحاج لخضر بالعودة إلى باتنة.. وقبيل ذلك اتصل به كل من محمود الشريف وإبراهيم مزهودي، ينصحانه بالمرور على تاورة (سوق اهراس) التي اتخذها جيش الحدود ومركز قيادة متقدم، يرابط به العقيد بومدين ومساعدوه، عمل الحاج ومرافقه الرائد مصطفى بالنوي بالنصيحة، لكن قائد الأركان كان منشغلا فلم يستقبله! عاد الحاج إثر ذلك إلى باتنة غاضبا، مهددا بحمل السلاح من جديد والإعتصام بجبل الشلعلع مركز قياداته القديم! لكن بومدين ما لبث أن تدارك الموقف، فعرج على عاصمة الأوراس واتصل به منبها بأن تملسان هي قبلة إعلان الولاء للسلطة الجديدة.. وهكذا انظم الحاج لخضر ورفيقه بالنوب إلى صف تلمسان، بعد أن سبقه إليها خلفه الطاهر الزبيري ونوابه، ودخل الصف رسميا بانتخابه نائبا في المجلس التأسيسي ابتداء من 20 ستبمر 1962. الحاج.. المواطن الصالح كان الحاج لخضر مواطنا صالحا، فضلا عن كونه مناضلا وطنيا لا يشق له غبار.. وكان في إطار التعبير عن مواطنته يميل إلى انقاذ الشباب شبه الضائع، وهدايته إلى طريق التربية والتعليم.. ويذكر الأستاذ محمد أمدّاح، أن الحاج اتصل به في صائفة 1951 وكان يومئذ طالبا بمعهد ابن باديس ليرغبه في انقاذ عدد من شباب تجزية الوقت في المقاهي أو القمار.. وفعلا ما لبث أن قدم إليه عشرة من هؤلاء، ليقدم لهم دروسا مسائية في مدرسة جمعية العلماء.. هذا العمل التطوعي الرائد كان يتم خاصة أثناء العطل الأسبوعية والفصلية، واستمر حتى عشية ثورة فاتح نوفمبر 1954 حسب الشاهد الذي يؤكد أن عدد الشباب المستفيد تضاعف أثناء ذلك، وقد أصبح أكثرهم غداة الثورة من جنودها بين مسبل وفدائي وعنصر في جيش التحرير الوليد. وغداة الإستقلال واصل الحاج لخضر جهوده على هذا الصعيد، لا سيما بعد أن تفرغ للعمل الخيري الديني ابتداء من عام 1980 ففي مارس من هذه السنة أسس جمعية دينية، بهدف انجاز مركز إسلامي ومسجد جامع وبعد 8 سنوات أنجز المركز باسم التعهد العالي للعلوم الإسلامية، وألحق حينها بجامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة وأصبح سنة 1998 سنة رحيل صاحب المشروع كلية للعلوم الإجتماعية والعلوم الإسلامية تابعة لجامعة باتنة التي تحمل اليوم إسم “جامعة الحاج لخضر”. التحق الحاج بالعلي القدير في 24 فبراير 1998، بعد حياة كلها عطاء للوطن وعائلته الكبيرة الشعب الجزائري قاطبة. علما أن الفقيد لم ينجب رغم زواجه 4 مرات.. وقد رثاه الشاعر السفير أحمد الطيب معاش بمرثية، نقتطف منها البيتين التاليين: ترك الريادة والسياسة والوغي واختار ركنا في المساجد واستراح وأتت منيته لتمنحه الخلاص من الشرار بعهد شر مستباح.. (انتهى)
(*) طالع الحلقة الأولى في “الفجر” عدد الأربعا الماضي (9 أكتوبر 2013) (1) صدرت عن دار القصبة سنة 1999.