لا مبالغة في القول: إن مصير الحل في فلسطين صار مرتبطا بمصير الثورة في سوريا، وإن نجاح الثانية سيؤدي حتما إلى تحقيق نجاحات في الأول، لما بين البلدين والشعبين من وشائج وثيقة ومتبادلة، وما تعلمه الشعب السوري من الثورة الفلسطينية، وعرفه من خلالها، واختزنه من وعي، وهو يتابعها ويتعاطف معها، خاصة بعد نشوب الانتفاضات التاريخية الكبرى، بدءا من عام 1987، التي أقنعت عامة السوريين أن بوسع العين ملاطمة المخرز، والضعيف مواجهة القوي، بسلاح الحق الذي لن يضيع ما دام وراءه من يطالب به. كان السوريون يتابعون النضال الوطني الفلسطيني بقدر استثنائي من التفهم والتعاطف، وكانت أعداد كبيرة منهم منخرطة فيه، لإيمانهم بأن خطر إسرائيل يتخطى حدود 1948، وأن شعب فلسطين يدافع عن سوريا، عن شعبها وناسها، الذين لا بد أن يعاضدوه ويساندوه، دفاعا عن أنفسهم ووطنهم. بهذا التدامج الذي يتخطى السياسة غامت في حالات كثيرة الحدود بين الفلسطيني والسوري، وصار الفلسطينيسوريا والسوري فلسطينيا، وانعكس هذا التواشج العميق على العلاقات الشخصية والأحكام العامة، التي أفردت مكانا خاصا للفلسطيني في وعي السوري، وجعلته يغير رأيه في نظامه ويشعر بقدر متعاظم من العداء حياله، بدءا من عام 1976، سنة دخول الجيش الأسدي إلى لبنان لضرب منظمة التحرير، بأمر من وزير خارجية أميركا آنذاك هنري كيسنجر، بما أن سوريين كثيرين كانوا يرون في المنظمة ممثلا لهم أيضا، ويعتبرون قائدها، الشهيد الراحل ياسر عرفات، بمثابة رئيس لهم أو يتمنون لو كان كذلك. هذه العلاقة الخاصة والمميزة بين الشعبين الفلسطيني والسوري تنعكس اليوم في دور فلسطينييسوريا، الشديد التعاطف مع ثورتها، وفي اقتناع عام لدى الفلسطيني السوري بأن هزيمة الثورة ستعني تقويض الحقوق الوطنية الفلسطينية، واستمرار برامج الاستيطان في الضفة الغربية، وربما في غزة لاحقا، ما دام هدف إسرائيل من تشجيع النظام على تدمير دولة ومجتمع سوريا كجهتين إقليميتين داعمتين للفلسطينيين هو تبديل معطيات الصراع تبديلا جذريا، وحرمان شعب فلسطين وسلطته الوطنية من الدعم السوري، والإخلال الشديد بموازين القوى بين العدو وبينه، أكثر مما كانت مختلة في أي وقت، وجعل الفوضى المحتملة، التي يرجح أن تجتاح سوريا وتستمر لفترة غير قصيرة، مقدمة لانفراد الصهاينة بالسيطرة الاستراتيجية على منطقة ستكون هي القوة الوحيدة الفاعلة فيها، والجهة التي ستمتلك وسائل التحكم بتطوراتها السياسية والعسكرية، وستواصل ابتلاع أرض فلسطين التاريخية، في الوقت الذي ستقلص فيه تقليصا متزايدا صلاحيات سلطتها، دون اعتراض من أميركا، التي ستكون مثلها منتشية بالانتصار الاستراتيجي الإسرائيلي - الأميركي المشترك، الذي سيتجلى في تراجع مواقع خصومهما الذين جرتهم إلى بؤرة الصراع السورية؛ من روسيا إلى إيران إلى حزب الله. في العلاقة السورية - الفلسطينية المميزة، يعني تدهور أوضاع شعب سوريا تدهور أوضاع فلسطين، وتقدم شعب سوريا تقدمها هي أيضا، وهزيمة ثورة سوريا هزيمة “لشعب الجبارين”، من المحتم أن تدفع ثمنها مع السوريين، أقله لأن إسرائيل تنظر إلى المشرق السوري الفلسطيني باعتباره وحدة واحدة، وتتعامل معه على هذا الأساس، وتعلم أن سوريا الديمقراطية ستشد أزر فلسطين إلى درجة غير مسبوقة، وستعيد طرح مشكلات المنطقة، وستعمل على حلها انطلاقا من منظورات جديدة فلسطين في القلب منها، ولن تقبل أن تنفرد تل أبيب بشعبها وسلطته الوطنية، أو أن تقرر خارج أي سياق عربي مصيره، فالديمقراطية السورية لن تكون للسوريين وحدهم، بل ستضع نفسها في خدمة الدول العربية جميعها، فكيف إذن لا يكون الأقربون الفلسطينيون أولى بمعروفها، ولا تكون ثمارها اليانعة في متناول أيديهم، وهم الذين لا يتعاطفون معها وحسب، وإنما يشكلون جزءا تكوينيا منها، ويدفعون ثمن موقفهم من دمائهم مثلما حدث مرارا خلال عمليات القتل المنظم التي يدبرها عملاء للنظام السوري، من أمثال أحمد جبريل ضد أهالي المخيمات، وسقط خلالها العشرات منهم، لأنهم كانوا يشاركون في مظاهرات تضامنية مع الثورة، ولم يقفوا متفرجين على ذبح إخوتهم، وخرجوا يعلنون تعاطفهم معهم، كي لا يكونوا من الشياطين الخرساء التي تصمت عن الحق. تتوطد بفضل الثورة أواصر سورية فلسطينية وجودية الطابع، وتتعزز شراكة الشعبين على أرضية مصيرهما الواحد. ومثلما صمدت فلسطين خلال أكثر من قرن ونيف في وجه عواصف وتحديات صهيونية ودولية مرعبة، ستصمد سوريا في وجه صهاينة السلطة الأسدية، وستعرف كيف تمد يد الشكر والعرفان إلى من شاركها معاناة الحياة والموت من بنات وأبناء فلسطين، الذين يقصفون اليوم كغيرهم من إخوتهم السوريين، ويحاصرون ويجوعون، ويصمدون ويضعون بصمتهم المميزة على جبين زمن عربي آت ستغطي فيه راية الحرية سماء دمشق والقدس، كي يكون لحرية سوريا المعنى الفلسطيني، الذي يريده شعبها لها.