إذا كان الكيان الصهيوني العدواني قد صمد 33 يوما أمام المقاومة في جنوب لبنان، قبل أن ينقذه مجلس الأمن من الهزيمة المنكرة، فإنه لم يصمد هذه المرة أمام مقاومة شعب غزة أكثر من ثلاثة أسابيع، مارس خلالها فن قتل الأطفال وفر من فن قتال الرجال للرجال. * هزيمته سوف تتكشف بعد حين على أكثر من صعيد: عسكريا وسياسيا وأخلاقيا، بإفلاس إستراتيجي لن تنفعه توصيات ألف لجنة فينوغراد. وقد حق لإسماعيل هنية أن يبارك لأهله على هذا النصر، لأنه كان كذلك، بل هو أكثر من نصر قد تحقق لفئة قليلة مؤمنة أعادت إحياء القضية، ونصرت خيار المقاومة ، وهزمت خيار الاستسلام، وعرت الاعتدال، وأعادت رغم أنفه فتح جبهة الجنوب على الكيان، ولن يكون بوسع شرم الشيخ وقمة الكويت الالتفاف على هذا النصر، والعودة إلى خيار التآمر على المقاومة بمسارات التسوية والمساومة على الحقوق. * في الربع ساعة الأخير الذي كان العدوان البربري الصهيوني يلفظ فيه أنفاسه الأخيرة، ويقترب من هزيمة عسكرية وسياسية وأخلاقية غير مسبوقة، انطلقت حملة مسعورة من فريق المطبعين المهزوم للمرة الثانية في بحر من سنتين، يريد حرمان شعب غزة ومقاومته من النصر تحت أكثر من ادعاء زائف، يحمل المقاومة بدل المجرم الصهيوني حصيلة العدوان من الشهداء والجرحى وما لحق بغزة من دمار. * * لا خير في اعتدال يدمر الشعوب * * إشارة بداية الحملة أطلقها رئيس السلطة محمود عباس الذي ردد عبارات مستنسخة من خطاب فريق المعتدلين اللبنانيين والعرب في أعقاب حرب يوليو 2006، والقول بأن "لا خير في مقاومة تدمر شعبها" وسوف يحاول ذات الفريق نكران النصر الذي حققته المقاومة بهذا الصمود الأسطوري الرائع، قبل الانتقال إلى تحميل حماس والمقاومة المسئولية عن حصيلة الحرب العدوانية التي فرضت على المقاومة وشعب غزة. ويكون من واجب النخب السياسية والثقافية والإعلامية، التي نجت من سنوات تهويد العقل العربي، أن تواجه في وقت مبكر هذه الحملة التي سوف تواصل الحرب على شعب غزة ومقاومته بطرق أخرى. * ثمة معايير كثيرة لتقييم الحروب ونتائجها، وتحديد المنتصر والمهزوم، لكنها تلتقي جميعها عند النظر في نهاية المطاف، إلى النتائج السياسية التي تفضي إليها المواجهات العسكرية، ما دامت الحرب هي مواصلة للسياسة بطرق أخرى والعكس صحيح عند منظر الحروب كلوسوفيتش. فلن يجرؤ أحد على القول: أن اليابان أو ألمانيا النازية قد خرجتا منتصرتين، وقد استسلمتا بلا قيد أو شرط وخضعتا لإملاءات المنتصر. وقد انهزمت فرنسا بمجرد توقيع بيتان على وقف القتال مع هتلر، رغم أن الخسائر في الجيش الفرنسي لم تكن كبيرة، وكانت حرب الاستنزاف التي قادها جمال عبد الناصر بنتائجها اللاحقة، نصرا في العرف السياسي، ربما أوضح من النصر العسكري في حرب أكتوبر التي انتهت بمعاهدة كامب دافيد المشئومة. فبمقاييس هذا الفريق المثبط، يكون الإتحاد السوفييتي قد خرج مهزوما من الحرب العالمية الثانية التي دفع فيها أكثر من عشرين مليون قتيل، ويكون الشعب الفيتنامي قد خسر حرب فيتنام لكونه ضحى بمليونين من الفيتناميين مقابل 54 ألف أمريكي. وتكون ثورة التحرير في الجزائر، بمليون ونصف مليون شهيد مقابل 60 أو 70 ألف قتيل في صفوف قوات الاحتلال، قد خرجت مهزومة من حرب التحرير. وإن شاء هذا الفريق سقنا له ألف شاهد وشاهد من التاريخ القديم والحديث، يشهد على أن ما آلت إليه هذه الحرب غير المتوازنة هو انتصار واضح وبين للمقاومة وبثمن زهيد، قياسا مع النتائج التي ترتبت بالضرورة عن هذه الحرب العدوانية على أكثر من صعيد، قد لا نستشرف بعد كل أبعادها. * * فك الحصار عن إرادة الشعوب... * * من المفيد أن نصرف النظر مؤقتا عن الحصيلة البشرية والمادية لهذه الحرب عند الجانبين، ونتوجه بجملة من الأسئلة لفريق المشككين الذي لم يتوقف عن الترويج لفوز إسرائيل في عدوانها على لبنان حتى بعد صدور تقرير فينوغراد الذي اعترف بالهزيمة تحت مسميات كثيرة، ليخلص إلى الاعتراف بفشل إسرائيل في تحقيق أهداف الحرب العسكرية والسياسية. * السؤال الأول: بكم من الضحايا كان على هذا الفريق أن يقيم ما صنعه صمود المقاومة وشعب غزة بالشارع العربي والإسلامي الذي شهد استفاقة غير مسبوقة، كنا قد يئسنا منها، وتداعى لنصرة أهل غزة، وتعضيد خيار المقاومة من المحيط إلى الخليج، واندفع بعنفوان رج بالأرض من تحت أقدام النظم العربية، وبدأ يفك الحصار عن إرادته المسلوبة منذ عقود؟ * الثاني: كم كنا على استعداد للتضحية به مقابل إعادة إحياء القضية الفلسطينية في قلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين، وتحصينها من مسار التصفية الذي كان يعد له الحلف في تل أبيب والقاهرة وعمان والرياض وواشنطن وفي عواصم الغرب عموما؟ * الثالث: كم كان بعضنا على استعداد أن يدفع، فقط لمعرفة ما إذا كانت العروبة والانتماء العربي والإسلامي، والشعور بوحدة المصير ما يزال موجودا، وقد ظهر أنه بخير، وأقوى مما كان عليه في أعز أيام عبد الناصر وبومدين والملك فيصل وصدام حسين رحمهم الله أجمعين؟ * * .. وفرض الحصار على مسار أوسلو * * الرابع: كم كان على الأمة أن تدفع من أرواح أبنائها، ومقدرات شعوبها لوقف مسار أوسلو المشئوم الذي أدخل القضية الفلسطينية في متاهة كانت سوف تفضي إلى ضياع الحق الفلسطيني، وإضاعة القدس الشريف إلى الأبد؟ * الخامس: كم كان على الفلسطينيين أن يدفعوا من ضحايا بالقتل المباشر والاغتيالات والتجويع والحصار، قبل أن تهبهم الشرعية الدولية الظالمة السيطرة على بعض الكانطونات وإدارتها بالمقاولة من الباطن لصالح المحتل؟ * السادس: كم كان على العرب من دول الجوار أن يدفعوا، لو لم تصمد غزة، كما لم تصمد أية مدينة من قبل في وجه وابل من النيران والقنابل والأسلحة التي تجرب لأول مرة في تقتيل الشعوب بالجملة؟ وهل كان للشعب اللبناني والسوري والأردني والمصري أن يسلم، لو أن المقاومة انهارت في الأيام الأولى، وتعالت في غزة صيحات الاستسلام؟ * السابع: كم كانت دول الخليج العربي سوف تدفع من حرب اسرائيلية أمريكية على سوريا وإيران كانت ستعقب بالضرورة انتصار إسرائيل في غزة لو لم تصمد المقاومة وشعب غزة على هذا النحو. * الثامن: وفي الجملة، كم كنا سندفع، كشعوب عربية وإسلامية، إن لم يكن من تداعيات ثورات شعبية غير مؤطرة تحرق شوارع مدن وعواصم العالمين العربي والإسلامي، بدافع حالة الإحباط التي كانت سوف تقود إلى تعرية جبهاتنا الداخلية، وتهيئتها لما هو أسوء مما حصل في العراق وأفغانستان. * * أول الغيث قطرة من دوحة قطر * * بوسعي أن أمضي طويلا في هذا الجرد لتداعيات سقوط غزة لو أنه حصل، وقدر للصهاينة إخماد آخر بؤرة مقاومة تطالب باسترجاع الحق الفلسطيني بالمقاومة لا بالمساومة، واستعادة أولى القبلتين وثالث الحرمين، لكني أثق في ذكاء القارئ ليوسع هذه المساءلة، ويستشرف تداعيات انهزام المقاومة وسقوط غزة، لو حصل لا قدر الله، على مصير المنطقة وأمنها وثوابتها ومقدراتها، وعلى الفرص القليلة التي بقيت لها للعودة إلى التاريخ، وانتزاع موقع لها تحت الشمس. * القادة العرب الذين اختاروا رغم الضغوط الهائلة حضور قمة غزة بالدوحة، واحتضانهم، لأول مرة، للمقاومة عبر دعوة قادتها، وتبني مطالبها بالكامل، إنما قد انتصروا لأنفسهم ولدولهم ولشعوبهم، قبل الانتصار للشعب الفلسطيني ولمقاومته. وأيا كانت الدوافع فإن الشعوب سوف تحتفظ لهم بهذا الموقف الذي سطر الحدود الدنيا لما كان ينبغي أن يكون عليه موقف النظام العربي المختطف منذ أكثر من عقدين من قبل الثلاثي المصري السعودي الأردني، ووضعوا بقية النظم العربية المتهمة اليوم بالتواطؤ في العدوان على غزة، أمام اختبار عسير بقمة الكويت، لن يخرجوا منه سالمين إلا بتبني هذا الحد الأدنى الذي توافقت عليه 12 عشر دولة عربية من بين 22 في جامعة الدول العربية، وفي المقدمة دفن مبادرة السلام العربية، ووقف مسار التطبيع، والعودة إلى الشعوب لبحث سبل بناء خيارات إستراتجية بديلة، يمكن لها أن تراهن على قدرة الشعوب على المقاومة كأرضية لإعادة بناء قوة ردع عربية، هي ألف مرة أقل كلفة من رعاية جيوش جرارة مستهلكة لنفايات الأسلحة الغربية ولميزانيات الشعوب. * * صدق وعده وهزم الأحزاب وحده * * لقد كان الصمود الأسطوري لشعب غزة ومقاومته حدثا لا يصدق، فريدا في التاريخ، قد لا نشهد له مثيلا في عقود بل في قرون قادمة، ولم يكن إسماعيل هنية بعيدا عن الحقيقة حين وصف ما يتحقق في غزة وكأنه القرآن يتنزل من جديد على أهل غزة. فقد اجتمعت في هذه الواقعة، بدر وأحد والأحزاب، واليرموك والقادسية وحطين في أكثر من مضمون، وأراد لها الله إلا أن تكون مجددة لوعده بالنصر للفئة القليلة المؤمنة. رقعة من الأرض لا تزيد مساحتها عن مساحة حي من أحياء القاهرة، محاصرة من الاتجاهات الأربع بحرا وجوا، كنا نخشى سقوطها بالحصار وحده، وقد غلقت عليها جميع المنافذ، بلا نصير ولا مدد يرجئ، وبلا عمق تستند إليه كما استند حزب الله للعمق السوري. قصف متواصل من البر والجو والبحر بترسانة لم تجمع من قبل لإخضاع مدينة في ما نعرفه من أشهر معارك المدن. ضوء أخضر من المجموعة الدولية الآثمة، ومن نظم الدول الشقيقة، كان يدعوا الصهاينة جهارا إلى استباحة شعب غزة بلا حدود حمراء. تآمر على كل الجبهات، وحرب إعلامية ونفسية من الشقيق فاقت مقدرات العدو على التأثير، والقائمة طويلة أدعها لخبراء الحرب، وللأكاديميات العسكرية تبحث عن أسرارها ألف سنة إن شاءت، ولن تحيط بها بأدوات القياس والدراسة الوضعية. * * بين سلطة تقاول وحكومة تقاوم... * * هل تدرون متى وكيف أيقنت من النصر مع نهاية الأسبوع الأول من الحرب؟ ليس من تصريحات قادة المقاومة، ولا من التقارير العسكرية وتحليلات الخبراء العسكريين. لقد تيقنت من النصر عندما شاهدت في أكثر من تقرير مصور للفضائيات نظافة شوارع غزة وهي خالية من أكياس القمامة، لأن المصلحة بقيت تعمل تحت النار، كما كانت فرق الدفاع المدني والفرق الطبية المنهكة بالحصار تعمل بكفاءة تحت النار، فلم تصمد غزة بمقاومتها وشعبها فحسب، بل صمدت أيضا بمؤسسات الحكومة التي زعم البعض إقالتها بقرار، قبل أن يقيله الصمود، ليس من رأس هذه السلطة المتهالكة، بل أقاله من لعب أي دور في قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، الذي وجد في المقاومة القيادة التي كانت الشعوب العربية والإسلامية تتمناها للشعب الفلسطيني المظلوم، ليقود بدوره ليس تحرير فلسطينالمحتلة وحسب، بل يؤمل فيه قيادة تحرير الأمة القادم من الحصار والقتل الجماعي بالحرب الباردة على العقول والنفوس والإرادات. * * ...واعتدال عربي ما زال يساوم * * ولمن بقي عنده بعض التردد، فلينظر إلى تلك الوجوه من زعماء أوروبا وقد توافدوا يوم عطلة لمواساة الفريق المهزوم في القاهرة وتل أبيب، والبحث عن مخرج لهذا النظام العربي الذي التأمت أخيرا قمته أمس في الكويت بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأوقفت المقاومة وحدها العدوان الذي تآمرت فيه بلا حياء هذه المجموعة الدولية الآثمة ومعها كثير من قادة نظام عربي مفلس. * لن يكون بعد اليوم للزعيم البريطاني تشيرشل وحده الحق في القول: لم يحدث في التاريخ أن تدين فئة كثيرة لفئة القليلة، وقد كان يعني الطيارين من سلاح الجو الملكي، لأن ما فعلته هذه الفئة القليلة في غزة سوف يظل دينا على الأكثرية من العرب والمسلمين في كل انتصار يعقب هذا النصر المبين.