نيويورك منحتي ما كنت أحلم به لأصبح فنانا تشكيليا بوبكر لغرور، فنان تشكيلي ورسام، ابن مدينة خنشلة، بالأوراس، درس الهندسة الكيميائية، لكن انجذب منذ صغره إلى الفنون الجميلة، يجسد في أعماله شخصيات البشر بتعبير قوي معتمدا على تدربه في مؤسسات ذات سمعة واسعة مثل جامعة الفنون بنيويورك، وفي النحت مع معلمه بول لوتشيسي الذي رافقه في عرض أعماله بإيطاليا، يدرّس اليوم بأكاديمية ”ستيفانسون للفنون الجميلة” بنيويورك، كما قدّم عديد المعارض بدء من سنة 1995. يتحدث في حوار ل”الفجر” على هامش معرض نظمه بالمركز الثقافي الفرنسي بالعاصمة، عن تجربته في النحت وأعماله دون أن يفصل حديثه عن الفن التشكيلي في الجزائر. بداية لو تقدم للجمهور الجزائري لمحة عن المعرض الذي نظمته مساء أول أمس، بقاعة العرض بالمركز الثقافي الفرنسي بالجزائر العاصمة؟ المعرض كما رأيتهم يضم قسمين، قسم مخصص للمنحوتات وقسم ثان خاص ببورتريهات أشخاص وأشياء أخرى، جسدت عبره شخصيات جزائرية بارزة تعبر عن تاريخ وتراث مناطق القبائل والشاوية ومنطقة الأوراس عموما، من خلال وجود وجوه الرجل والمرأة الأوراسية، كما تعكس أيضا تراث المنطقة بشكل خاص، وأبرز ما لا حظه الجمهور هو وجود نحت لوجه الشهيد عميروش وكاتب ياسين ومولود معمري، أمّا وجه المرأة الأوراسية فهي تعبر على كامل نساء الجزائر. بينما المنحوتات التي جسدّت ”المرأة العارية أو الرجل العاري”، فهي تدل على طراز حيّ خلال العصر الراهن، حيث يقوم بعرض جسده أو بما يشبه ”لي مانكا” في المحلات، ومن هنا نتعلم إنجاز المنحوتات، حيث تتعلم دوما على ”طراز أو نوع” معين، يكون حيّا عبارة عن جسد إنسان سواء رجل أو امرأة. هل يميل الفنان التشكيلي في الجزائر إلى الاشتغال على هذا النوع أو ”مودال عاري”؟ أنا أدرّس هذا النوع في أكاديمية ”ستيفانسون” للفنون في نيويورك، ولهذا كسبب أول، قمت بعرضها في الجزائر وفكرت في إحضاره إلى هنا لأنّه شيء مفقود ولم أره في الجزائر خصوصا الوجوه القديمة لشخصيات معينة لأنّ مدارس الفنون في العصر الحالي تركز على ”الطراز” أو ”النوع” في منهجها الدراسي وورشاتها التدريبية. أتسعى لإدخال هذا الشكل الفني ”إنسان عاري، مجرد من الثياب”، إلى الجزائر مستقبلا؟ لا أعتقد ذلك، لأنّ الدين والعادات والتقاليد يمنع هذا وبالتالي إذا قمت بعرضه في بلادي فإنّني أحرج الجمهور الجزائري الذي لا يمكنه رؤية مجسم أو جسد، لكن رغم هذا كنت آتي إلى الجزائر أحيانا وأقوم بورشات تدوم أسبوع في مدارس الفنون الجميلة بالعاصمة ومدرسة الفنون الجهوية بعزازڤة بتيزي وزو. بينما يظل عرضه من شبه المستحيل للأسباب التي ذكرتها. كم لوحة ضم هذا المعرض؟ 39 لوحة في المجموع، منها 20 نحت، 4 باروليات والباقي لوحات بالرسم على الزيت تصور عديد المواضيع على غرار المرأة القبائلية وتقاليدها في اللباس وأخرى عن الطعام مثل اللبن والتمر وغيرها. ما هي المواد التي تستعملها عادة لرسم لوحاتك ومنحوتاتك التي تقدمها في معارضك؟ أشتغل كثيرا على مادة ”البرونز”، الكاراكوتا التي تعيني بالعربية الطين أو التربة، وهي تخضع لعمليات عدّة حيث تطهى وتتحول إلى شكلها المناسب للعمل، بالإضافة إلى مادة ”لاريزين” التي تمزج بين عدة مواد تخلط وتقطّع في النهاية إلى أجزاء تكون مشكلة لبداية النحت. هل تجد صعوبات، في الاشتغال على هذه المواد باعتبارها تتطلب جهدا وصبرا كبيرين؟ من جانب الصعوبات، لا، لكن تأخذ وقتا طويلا لإنجازها، فالانتقال من المادة الأصلية إلى البرونز يستغرق مسيرة طويلة، حيث تمرّ عبر ”القالب” ومن ثمة تصنع نسخة خاصة ب”لواكس” أو الشمع وبعدها تقوم بتذويب الحمض لتصل أخيرا إلى تفريغ البرونز السائل، وبعد الانتهاء من العملية تقوم بالتلوين الخاص بالبرونز والمستعمل عن طريق النار والحمض. كم من الوقت يستغرق الاشتغال على عمل فني معين؟ أشتغل في أستوديو خاص بمجال عملي في نيويورك رفقة مجموعة من الزملاء، حيث نستغرق وقتا طويلا في عملنا، وأؤكد بأنّ العملية تتطلب عديد الأشخاص، لإفراغ السائل البرونزي إذ يستلزم أربعة أو خمسة أشخاص. لماذا ركزت على مادة البرونز؟ أجل، تستطيع القول بأنّ هناك فرقا شاسعا، كل الوجوه المنحوتة بالبرونز جاءت من نيويورك، ولم تأت من الجزائر وهذا يدل على أنّ هؤلاء لاسيما الفنانين الذين يتخصصون في النحت لهم علاقة كبيرة مع هذا المعدن ”البرونز”، لأنه يبقى مدى الحياة ولا تعرض للصدأ أبدا، ومؤخرا انتشلوا قطعا من البرونز في إيطاليا من عرض البحر يعود عمرها لأكثر من 400 سنة قبل الميلاد ولما تراها تجدها ما تزال بحالة جيدة ولم تتآكل إطلاقا، وهذا ما يدل على القيمة الفنية لهذا المعدن. غادرت الجزائر نحو نيويورك، ماذا منحت لك هذه المدينة؟ أعطتني ومنحتني إمكانية تحقيق ما كنت أريد تحقيقه في حياتي بخلاف الجزائر، ولما يقال لي الجزائر وكأنّها شيء خارق للعادة، وأتساءل هل تعطيك الدولة الجزائرية معدن البرونز للعمل عليه وتصنع منه أعمال ووجوه فنية منحوتة، قطعا لا. تحدث مدير المركز الثقافي الفرنسي بالجزائر وقال بأن ذهابك إلى إيطاليا نتج عنه تأثرك بثلة من وجوه الرسم في العالم؟ إيطاليا عرفت بنهضة واسعة في هذا المجال وعملت فيها وكنت أذهب إليها أحيانا، حيث تأثرت كما قلت لك بالنهضة التي كانت هناك وتأثرت بأسماء لامعة في التشكيل والنحت أبرزهم مايكل أنجلوا، كانوفا وهم فنانون يشتغلون على الأشياء الكلاسيكية أكثر من شيء آخر، إلى جانب آخرين. ركزت في أعمالك المعروضة في رواق المركز الثقافي الفرنسي بالجزائر على وجوه أمازيغية من الأوراس والقبائل، هل من دلالة في هذا؟ كما يقال بالدرجة الجزائرية، ”عينك هي ميزانك”، وبالتالي لا أقصد شيئا من ورائها سوى التنويه فقط بأنّها مواضيع تتعلق بالجزائر وتاريخها ومناطقها، لكن يبقى نوع ”الإنسان العاري” هو دائما إلهام الفنانين منذ عديد القرون إلى غاية الآن، إنّه شيء ملهم لكن يعتبر في الوقت نفسه ببلادنا وبلاد المسلمين ”طابو” ولا يمكن تجاوزه أو شيء محرم لا يجب عرضه أو يفترض عدم عرضه في البلدان العربية والإسلامية، وبالتالي لابد من عدم المغامرة بعرضه. ربما كذلك، لكنكّ سلّطت الضوء على ثلاثة وجوه هي كاتب ياسين، مولود معمري والشهيد جمال عميروش، ماذا أردت من خلالها ولماذا لم تنحت وجوه شخصيات بارزة في الجزائر في جميع المجالات بخلاف الثلاثة؟ جمال عميروش واحد من الذين حرّروا الوطن، كاتب ياسين حمل معه مشروعا ثقافيا كبيرا للبلاد في الأدب وسيما الفن الرابع المسرح، أمّا الراحل مولود معمري فقد حافظ على الأمازيغية، ولهذا أردت تكريمهم وتشريفهم على مجهوداتهم الجبارة التي قاموا بها خدمة للجزائر. ما هي عوائق الفن التشكيلي في الجزائر؟ المشكل الكبير الذي يعاني منه الفن التشكيلي في الجزائر يتعلق أساسا في النحت، حيث لا يوجد طراز يعمل عليه طلبة الفنون الجميلة ويعرف كيف هو منجز الهيكل والجسم، وهذا لا يوجد في بلادنا، وبالتالي بدون هذه العناصر لا تستطيع أن تقوم بعملية النحت. وحسب رأيي إذا اشتغلت على النحت فإنّك تشتغل على الخيال وليست أساسيا صحيحة، إذ كل مدارس الفنون الجميلة في العالم خصوصا بأوربا وأمريكا لمّا تبدأ في نحت مادة ما تختار أولا ”طرازا أو نوعا معينا” تشتغل عليه ونحن لا نملك ”الطراز أو النوع” في بلادنا. لكن هناك فنانين يحصرون مشكل الفن التشكيلي الجزائري في غياب فضاءات وقاعات عرض تسوق لأعمالهم، ألا توافقهم في هذا الطرح؟ لا لا، هذا هراء وتفاهة، وينطبق هذا كما لو تقول لي لا يوجد سكن في الجزائر، والسكن موجود، ولا أعتقد أنّ الإشكالية هي انعدام القاعات، فبإمكانك فتح مرآب وورشة صغيرة تنجز فيها أعمالك، وتقوم بالنحت، أنا اشتغلت على النحت في البداية في أماكن مثل هذه. أقصد بسؤالي، بعد الانتهاء من إنجاز لوحاتهم الفنية، يشتكي الفنانون من غياب قاعات لتسويق لوحاتهم وعرضها للجمهور والمهتمين بالرسم؟ ربما، كما تفضلت بسؤالك، لكن حسب اعتقادي أنّ الجمهور يجب أن تعلمه وتخبره مسبقا وتقوم بحملات توعية وتحسيسية لأجله تقربه من الفن وتحسسه به، لذلك لا تجد جمهورا يأتي لمشاهدة اللوحات ومختلف الأعمال ببساطة، فهذه صعبة جدّا، فكيف لا وهو الذي خرج من عشرية سوداء كانت صعبة عليه، وبالتالي يصعب عليه تقبل ذلك، لأنّ أغلبية الشعب لم تذهب لرؤية المتاحف والنحت وغيرها، ولهذا لا يوجد تحسيس بالفن التشكيلي، وليس العائق هو القاعات، فثقافة الاهتمام بالنحت وما شابهه غائبة تماما. كم لك من عمل حتى الآن بين النحت واللوحات المرسومة منذ ولجت هذا العالم من الفن؟ لا أذكر، إنّها كثيرة تعكس خبرة وعمل 22 سنة منذ مغادرتي تراب الجزائر إلى نيويورك، بأمريكا. درست كيمياء وانتقلت إلى الفن عملا وتدريسا لماذا هذا الانتقال الجذري؟ منذ صغري وأنا منجذب لهذا المجال بغض النظر عن الدراسة التي كنت أحبها أيضا، والدليل درست الكيمياء، غير أنني لما انتقلت إلى أمريكا سنة 1981، دخلت هذا المجال وبرهنت على إمكاناتي في أعمالي.