المداومة على الأوراد.. يقول ابن عطاء السكندري:”إذا رأيت عبداً أقامه الله تعالى بوجود الأوراد، وأدامه عليها مع طول الإمداد، فلا تستحقرن ما منحه مولاك، لأنك لم تر عليه سيما العارفين ولا بهجة المحبين. فلولا وِردٌ ما كان وارد” الورد هو الحصة المحددة التي يواظب عليها المسلم من الطاعات والعبادات غير المفروضة، ويلزم نفسه بها،كقدر معين من القرآن يقرؤه كل يوم، وكعدد من التسبيح أو الاستغفار أو الصلاة على رسول الله أو غير ذلك من الأذكار، يلزم به نفسه في ميقات معين من كل يوم.. فالفرائض لا تدخل في المعنى المراد بكلمة ”الأوراد” كذلك المندوبات التي يواظب عليه المسلم في طيّ الطريق الذي يوصله إلى الله وتذويب بعده،وتوارد المنح الإلهية إليه. ولعلك تسأل: ما المستند الذي يُعتمد عليه من كتاب الله أو سنة رسوله، لهذا الورد الذي يلزم به المسلم نفسه؟ وما مصدر هذه الكلمة الورد في الشرع؟ والجواب أن الخطاب الإلهي الموجه إلى رسول الله في القرآن دليلا على ذلك، وفي عمل رسول الله وقوله تأكيد لما دلّ عليه القرآن من ذلك، ألم يقل الله لرسوله:{يا أيها المزَّمل، قم اللَّيل إلاَّ قليلاً، نِصفه أوِ انقُص مِنه قَليلاً، أو زِد عليه ورَتل القرآن ترتيلاً} (المزمل). وقد علمنا أن الأمر الموجه إلى رسول الله موجه إلى سائر المسلمين أيضاً، إلاّ أنه موجه إلى رسول الله في هذه العبادة على سبيل الوجوب، وإلى المسلمين على سبيل الندب. ألم يقل الله لرسوله:{فاصبر على ما يقولونَ وسَبِّح بِحَمد ربِّك قبل طلوع الشَّمس وقبلَ الغروبِ، ومن الليل فسبِّحه وأدبارَ السُّجود}(ق)، وهو أمر صريح كما ترى بالمواظبة على أذكار مخصوصة، وهو موّجه إلى أمّة المصطفى كما هو موجه إليه،على سبيل الندب والاستحباب المؤكد. ألم يقل الله تعالى في وصف النخبة الصالحة من عباده:{كانوا قليلاً من اللَّيل ما يهجَعون، وبالأسحارِ هم يستغفِرون}، فأثنى عليهم بما كانوا يواظبون عليه من ورد التهجد والاستغفار بالأسحار. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: ”أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة؟ قال قائل:”كيف يكسب في اليوم ألف حسنة؟، فقال:”يسبح في اليوم مئة تسبيحة”. ومن ثم فقد كان جل الصحابة مواظبين على أوراد تلاوة القرآن، والأذكار المتنوعة،في أوقات محددة، وقد كان من عادة عمر رضي الله عنه إن شُغِل عن الورد الذي ألزم به نفسه لأمر مّا من شؤون الخلافة ونحوها، قضاة في وقت ما من بعد. أما التسمية ومصدرها، فالخطب في ذلك يسير، إذ الأمر عائد إلى التعبير الذي يُصطلح عليه، ولا مشاحّة في الاصطلاح، ومن لم يعجبه مصطلح ”الورد” فليتجاوزه وليستعض عنه بالتعبير الذي يروق له، والبدعة لا شأن لها بالمصطلحات والتعابير التي لم يتعبدنا الله بها في نص قرآن أو سنة. فإن رأى أنه يسخف بالمضمون الذي أمر به اله عز وجل و أكده رسول الله فيما قد أخبرتك به لا بمجرد الألفاظ والتعابير، وأنا أعلم أن في الناس الذين يصنّفون أنفسهم دعاة إلى الله ومعرفة بدينه،من لا يقيم لهذه الأوراد وزناً. ولا يأخذون أنفسهم بشيء منها، بل يرون فيها ما يشغلهم عن الأنشطة الحركية الأخرى. والله المتستعان.. وإذ عرفت معنى الورد وأدركت أهميته، فلا تستخفن بحال من قد وفقه الله للمواظبة عليه أيا كان نوعه ومهما كان قدر، محتجاً بأنك لا تبصر في مظهره شيئا من سيما الصلاح ولا تشعر في شؤونه و أوضاعه على أي من الأحوال التي يعرف بها الربانيون. فإن هذه الظاهر لا تشكل المقياس الذي لابدّ منه، لقرب العبد من الله وارتفاعه إلى مستوى العارفين والصدّيقين. فرب إنسان اصطفاه الله وميزه بالقرب، دون أن يبدو عليه شيء من السيما التي يتواخاها الناس، ودون أن تعثر في نهجة وتقلباته على أي من تلك الأحوال. واعلم أن الدلالة الحقيقية على صلاح الإنسان وقربه من الله، إنما تكمن في مواضبته على الأوراد دون انقطاع.. وربما كانت مواظبته عليها مقيدة بأوقات خاصة، يخلو فيها إلى نفسه بعيدًا عن الناس. ومكان الدلالة في ذلك أنه لولا واردٌ ورد إليه من النفحات الربانية، ومن فضل الله الذي يؤتيه من يشاء، لما اتجه إليه من الأذكار أو أنواع الطاعات المندوبة الأخرى، يجعل منها وظيفة دائمة يحمل نفسه على أدائها دون انقطاع ولا فتور. كثيرون هم الذين ينشطون في التوجه إلى بعض الطاعات لمناسبات أو لأسباب، ثم ما هو إلا أن يتراجع نشاطهم وتفتر رغباتهم، مع تلك المناسبات، فتكون دوافعهم إليها نفسية تابعة لظروف و أحوال عابرة. ومن ثم لا تكون توجهاتهم العارضة والعابرة هذه دليلاً على شيء من الواردات الإلهية التي نتحدث عنها. إذن إن الدعوة إلى حسن الظن بمن كان له سيمات التقوى، لا تعني الدعوة إلى إساءة الظن بالآخرين الدين لا يملكون هده المواصفات..