لم تؤثر شخصية سياسية وفكرية في نفسي مثلما أثرت في شخصية مانديلا وغاندي لأسلوبهما الكفاحي المختلف ولجنحهما إلى الأساليب السلمية في محاربة المستعمر البريطاني الذي جعل من بلديهما جزءاً من بريطانيا العظمى التي لا تغيب عن أراضيها الشمس، بل لشخصية مانديلا المساحة الأكبر في وجداني، ربما لأننا عاصرناه وعشنا سنوات سجنه الطويل والمرير عن كثب، وكان لنا الحظ أننا عشنا لحظة إطلاق سراحه في فيفري 1990 بكثير من الفرح والتأثر، فقد رافقنا كفاح شعبه ضد العنصرية سنين طوال، واقترن اسم مانديلا بأسماء أبطال الجزائر وبثورتنا التحريرية، التي استلهم منها الرجل أسلوب كفاحه، واعتنق قضيتها مثلما اعتنق قضية شعبه وقضايا إفريقيا بأسرها. اليوم أحس بحزن عميق، ليس لأن ماديبا العظيم رحل وهو مصباح النور الذي بقي مضيئا في زمن الدوس على المبادئ والمتاجرة بالقضايا، وترك العالم يتخبط في حمم الخيانات العظمى والمظالم التي تتخذ أشكالا وأسماء مختلفة، فمانديلا يستحق هذه الراحة الأبدية، فقد تعب جسمه وعانى الكثير في سجون العنصرية وفي جزيرة رون آيسلاند، حيث قضى 27 سنة من أحسن سنوات عمره، يستحق هذه الراحة، لأن التاريخ لا يعرف رجلا في حجم مانديلا أدى رسالته كاملة وانسحب إلى الظل ملهما شعبه والإنسانية جمعاء، وأعطاها أعلى مثل في احترام النفس ومعرفة حدود حقوقها وواجباتها، لا يعرف العالم زعيما قاسى ما قاساه مانديلا من ظالم ومع ذلك لم يسكن الحقد قلبه، ولم يتخذ من معاناته سببا للانتقام لشخصه أو لشعبه، بل إن سنوات السجن والعزلة والمرض علمته كيف يحارب الإنسان المرارة التي بداخله، وجعلت منه حكيم عصره، ليخرج إلى العالم ويلقن الإنسانية أعظم الدروس، وليبني من بلده ومن الشعب الذي مزقته ضغائن الأبارتايد وطنا بألوان قوس قزح. فمثلما حارب العنصرية ضد السود، حارب العنصرية ضد البيض، وجمع شمل أبناء جنوب إفريقيا في هوية واحدة، هوية هذا الوطن الذي يسع الجميع، قبل أن ينسحب مسلّما المشعل للأجيال التي أنار طريقها بعقله وكفاحه، لصالح أبناء وطنه، بيضا وسودا وهنودا لتكون جنوب إفريقيا على ما هي عليه اليوم دولة تسير على طريق الرقي والتطور. حزينة اليوم، لأن مانديلا الذي قال يوما ما في أحد حواراته مع نفسه في السجن والتي دوّنها في كتاب “حوارات مع نفسي“، إنه يجد نفسه صغيرا أما شجاعة وبطولات المجاهدين الجزائريين، وأنه يخاف ألا يرقى نضاله لنضال رفاق بن بلة الذين تقل أعمارهم عن عمره هو. حزينة لاندثار هذه الصورة التي سجلها مانديلا على مجاهدينا الآن، بعد أن كان كفاحهم نبراسا أنار دروب الإنسانية. فكيف يرقى التلميذ مانديلا إلى هذه المكانة العظيمة التي شهد له بها كبار العالم وشعوبه أمس وهم ينحنون أمام روحه، وكيف نتخلف نحن في مسيرتنا وتتعثر خطانا ونحيد عن الطريق؟ كيف لمانديلا التلميذ الذي تتلمذ على أيدي مجاهدينا في معسكرات وجدة أن ينقل شعلة الوطنية عنهم ويسير بها وسط الظلام ليعطي العالم أروع مثال على التسامح؟ وكيف أصبحنا نحن اليوم شرقا وغربا، عربا وقبائل بعدما جمعتنا كلمة واحدة كلمة الثورة على الظلم؟ شكرا لك مانديلا على هذا الصفاء الذي حمله قلبك للإنسانية. شكرا على التسامح وعلى حبك للجزائر وعلى اعترافك ببطولات شهدائها الخيرين. شكرا لأنك كنت إنسانا بصفات الأنبياء. شكرا لك لأنك مانديلا واحترمت هذا الاسم وأعطيته مساحة غير مسبوقة بين تاريخ العظماء ولك أن ترتاح اليوم وتنعم بالرضا.