دأَبَ الناس أن يتخذوا من مظاهر الإقبال على المساجد مصلين راكعين ساجدين، ومن مظاهر تزايد الحجيج المتجه إلى بيت الله الحرام، دليلاً لهم على أن المسلمين لا يزالون بخير وأنهم ملتزمون بأوامر الله عز وجل مبتعدون عن نواهيه.. ولكن البيان الإلهي يضعنا أمام مقياس آخر، فتعال أخي نتأمل في هذا المقياس الذي نقرؤه في كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة 204]، {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.. مستشهداً بصلواته، بركوعه وسجوده، مستشهداً بتطوافه حول بيت الله العتيق لكن ذلك ليس دليلاً، يقول: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }، لماذا يا رب؟ يأتي الجواب {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة205]. إذاً هذا هو المقياس، إصلاح المجتمع أو العكوف على إفساده. وتأمل أخي كيف يؤكد البيان الإلهي هذا المقياس عندما يقيد ربنا الإيمان دائماً لا بصلاة وحج، ولكن بالعمل الصالح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً}[الكهف:107]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}[النور الآية55]. هذا هو المقياس، وليس يعني ذلك أن الصلاة غير ذات جدوى ولكن الصلاة لابد لها من ثمرات والثمرات تكمن في رعاية إصلاح المجتمع والابتعاد عن إفساده، فإن لم تتحقق هذه الثمرات فصلاة هذا الإنسان ربما كانت مردودة. وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً”. لكن أين يتجه واقعنا.. هل يتجه صعداً إلى مرضاة الله عن طريق إصلاح المجتمع أم هو يرجع القهقرى بسبب عكوفنا على الفساد والإفساد فيه، هل اختفت الرشوة من مجتمعاتنا الإسلامية؟ هل أقلع التجار والبائعون عن الغش وأنواعه؟ وما أكثر أنواع الغش إن في السلعة ونوعها أو في الثمن والأكاذيب التي تحاك من حولها..هل أقلع هؤلاء التجار والبائعون عن الغش وأنواعه وآثروا أن يكونوا في عملهم خداماً لمجتمعاتهم؟ إن كانوا قد أقلعوا عن ذلك أوتقلص ذلك من حياتهم فلنعلم أن المسلمين بخير وأنهم متجهون إن ببطء أوبسرعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. هل غدت المستشفيات العامة مظهراً بكل من فيها لخدمة المرضى ورعايتهم والسهر عليهم؟ هل أصبح الأطباء المناوبون يقضون لياليهم إلى جانب مرضاهم يؤنسونهم، يرعونهم، يخدمونهم؟ أم أنهم اتخذوا عملهم ساعة أنس وفكاهة ؟! الموظفون والمسؤولون على اختلاف مراتبهم.. هل أقلعوا عن أن يجعلوا من وظائفهم مطايا لمصالحهم الشخصية وعادوا فعاهدوا الله عز وجل على أن يجعلوا من أنفسهم مطايا لمصلحة الأمة؟ إن كانوا قد عاهدوا الله على ذلك فالمسلمون بخير. فما الجواب ياترى عن هذه الأسئلة؟ الواقع هو الذي يجيب، أصبحنا وكأننا نتخذ الصلاة كستار لما نقوم به من الأعمال الفاسدة.. ولكن كيف السبيل إلى أن نُخرِج حب الدنيا من قلوبنا، وحب الدنيا هو السبب لكل هذه المفاسد التي قد نتورط فيها؟ السبيل سبيل قصير سهل وهو أن تُمَتِّن وأن تزيد من حب الله عز وجل بين جوانحك. ولكن كيف السبيل إلى أن تزداد حباً لله؟ سبيل ذلك أن تربط النعمة بالمُنعم، افعل ذلك تعشق ربك، إذا أويت في المساء إلى فراشك فاذكر أن الذي يكرمك بنعمة الرقاد ربك واحمد الله على ذلك، فإذا استيقظت بعد ساعات ورأيت نفسك قد تنشطت من عقال اذكر الإله الذي أيقظك بعد نوم وأحياك بعد موت. إذا دخلت الحمام فاذكر أن هذه النعمة التي أسداها الله إليك إذ حرَّرَك من سمومك أتتك من عند الله سبحانه وتعالى واشكر مولاك على ذلك. إذا خرجت تغسل يديك بالماء النمير اذكر الإله الذي أكرمك بهذا الماء الطهور الطاهر المطهر.. وهكذا اربط نعم الله عز وجل بالمُنعم تعشق المنعم وعندئذٍ تتجه إلى أن تضحي بدنياك في سبيل من تحب بعد أن كنت تضحي بأوامر الله عز وجل وأحكامه في سبيل دنياك. ومن أخص النعم التي ينبغي أن لا ننساها أن الله سبحانه وتعالى أكرم هذه الأمة بجلاء المستعمر عنها، وليس المقصود جلاء المستعمر الصوري كما يقول بعض الناس، ولكن تذكر دائماً أن الله عز وجل أكرمنا بجلاء المستعمر عن أرضنا وبجلاء سلطانه عن نفوسنا، هما مرضان اثنان.. مرض الاستعمار المعروف التقليدي ومرض قابلية الاستعمار، كثيرة هي المجتمعات التي ولىّ الاستعمار عنها في الظاهر فلم يعد للاستعمار يد على أرض ولا على ثروة أو ممتلكات ولكن قابلية الاستعمار جعلتها لا تزال تعاني من هذه الأمراض. لكن من أين جاءت هذه النعمة؟ لا تتصور أنها جاءت بحيلة عقل ولا بقوة إنسان، الوسائل موجودة والأسباب لا تُنْكَر، ولكن الله الذي خلق الأسباب هو الذي أكرمنا بهذه النعمة. اربطوا نعم الله عز وجل بالمنعم، اربطوا هذه النعم بمصدرها، عودوا بعد ذلك إلى قلوبكم تجدون أن هذه القلوب غدت أوعية لحب واحد لا ثانيَ له ألا وهو الله، فيم يخدع التجار إخوانهم، فيم يغش المزارعون إخوانهم وأصحابهم، لماذا يكون هذا كله؟ من أجل الدنيا؟ ولكن إذا هيمنت محبة الله على القلب، خرجت الدنيا وأصبحت عبارة عن قمامة تداس على الأرض. اللهم اجعل قلوبنا أوعية لحبك، الله وفقنا لأن نربط نعمك بك، أنت المنعم{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل53] .