يقيم الإسلام دعائم مجتمعه على أسس راسخة وقواعد ثابتة تمتد في أعماق النفس البشرية وتمتزج بمشاعرها وعواطفها الأصيلة متأثرة في ذلك كله بعقيدة راسخة تستقر في قلب المسلم، ليكون بناء الأمة الإسلامية بناء قويا متينا. وأقرب العواطف وأشدها تأثيرا في النفس هي عاطفة الأبوة والأمومة، فإنها العاطفة التي تضم بين حنانها الوليد في مراحل نموه، فيشعر بدفء عواطف الحب والرحمة والشفقة حتى يشب ويترعرع، وتواصل سيرها معه يافعا ورجلا وشيخا، ومن روابط هذه العواطف يكون بناء الأسرة المسلمة القوية الصالحة. وإذا كان شعور الإنسان يتطلع دائما إلى المستقبل، ويتدفق حيوية، وطموحا نحو الجديد من الزوج والذرية، ويجد دافعا قويا إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لا يشدد في أن يوصي الوالدين بالأولاد، لأن ذلك أمر مركوز في فطرة الإنسان، فالوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شي في سبيلهم حتى بالذات، وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشرة خاوية، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هم شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل للشيخوخة، ولكنهما مع كل ذلك سعيدان كل السعادة. ولا عجب بعد ذلك، أن تأتي كلمات الله تعالى في كتابه توصي الأبناء بالأباء وتحرك عندهم مشاعر الرحمة في القلوب لتنظر قليلا إلى الوراء، إلى أيام سلفت لها مع آبائها وأمهاتها وهي تشقى وتتعب وتمرض من أجل هذا الوليد، ومن ثم يقرن الله سبحانه وتعالى هذه الوصية ببر الوالدين بعبادة الله سبحانه ويعتبرها قضاء مبرما وأمرا لازما يمتثله المسلم، لأنه أمر من الله سبحانه العليم الخبير، وشأن المسلم دائما وأبدا أن يقوم بكل عمل أو تصرف، عبادة لله تعالى وامتثالا لأمره. قال الله سبحانه: ”وقضى ربك ألا تعبد إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً”. ”ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك وإلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون”. ”واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً” ”قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً” .ومن ثم أوجب الإسلام على الأبناء جملة حقوق لآبائهم وأمهاتهم: أولهما الإحسان إليهما وبرهما عرفانا بحقهما عليه، ثم المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة الرقيقة وعدم الضجر والتأفف ”فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً” ويتبع ذلك، التواضع ولين الجانب: ”واخفض لهما جناح الذل من الرحمة”والدعاء لهما: ”وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً”، والوفاء لهما وصلة أهل ودهما ، فمن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه. وجاءت أحاديث نبي الرحمة والهدى تفصل ذلك البر وتبين أهم الحقوق: ”فقال لمن سأله يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي ؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من ؟ قال: أبوك”. ومهما فعل هذا الوالد من البر والطاعة فإنه لن يكافئ أمه ولن يؤدي حقها كاملا: فقد رأى ابن عمر رجلا يمانيا يطوف بالبيت وهو يحمل أمه وراء ظهره ويقو: ”إني لها بعيرُها المذللُ إن أذعرت ركابُها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر: أترى أني جزيتها، قال: لا، ولا بزفرة واحدة”. وعقوق الوالدين سبب العقوبة العاجلة في الدنيا، فعن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات”. وعنه: ”ما من ذنب أجدر من أن يعجل لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له من البغي وقطيعة الرحم”. وبين النبي أن دعوة الوالدين مستجابة فقال: ”ثلاث دعوات مستجابات لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما”. وعقوق الوالدين من أكبر الكبائر والذنوب: قال : ”ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث: قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور”. وقال: ”ثلاثة لا ينظر إليهم يوم القيامة : العاق لوالدين، ومدمن الخم، والمنان في عطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق والديه، والديوث، والرجلة من النساء”، وقال: ”إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه ؟ قال بسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه”. لا تنسوا-إخواني- فضل آبائكم وأمهاتكم عليكم، انظروا إلى أمهاتكم حين يلدن كم يتألمن ويصرخن، ثم انظروا إليهن بعد ذلك : كم يسهرن وكم يجزعن، وانظروا إلى آبائكم كيف يكدحون في الحياة ويتعبون من أجل تربية الصغار ويعلمهم ورعاية شؤونهم وكونوا على ثقة بأن الحياة جزاء ومكافأة فمن أحسن منكم إلى أبويه وحنا عليهما وبرهما رزقه الله أولاد يحنون عليه ويبرونه، ومن عق والديه عوقب بأولاد يعقونه وينكرون فضله ويسيئون إليه وقد قال: ”بروا آبائكم تبركم أبناؤكم”.