يقول المفكر عبد الوهاب المسيري –رحمه الله-: ”المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل لا يستحق لقب المثقف.” أستأذنه في قبره ! لأضيف إلى مقولته:”.. والمثقف الذي لا يترجم فعله إلى موقف يعبر عما يعتقده و يراه حق و فضيلة لفائدة الصالح العام، ليس جديرا بالاحترام ولا بالتأسي.” ألم يرد عن نبينا المصطفى – صلعم- قوله: ( ..أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.) وجدتني أقول هذا وأخوض في هذا الموضوع الشائك، وأنا أتابع وأرصد بعضا من تصريحات، آراء و مواقف نخبتنا ومثقفينا.. حيال ما يجري في بلادنا من حراكات مجتمعية ومدنية، وتنافس سياسي انتخابي -فيه الكثير من السوء والقذارة والخطيئة- تجلى بوضوح وامتد منذ تشريعيات ماي 2012؛ حيث تهافت أشباه النخب والمثقفين يومها على الترشح واللهث وراء تصدر القوائم بطريقة مبتذلة؛ حتى و لو تعلق الأمر باستجداء قادة أحزاب السلطة المعتلفة، و طواطم و سنافر زعماء المعارضة و طفيليات المواعيد السياسية– الانتخابية.. مقابل بيع الضمائر والمواقف، وإهانة الذات، المهنة والوظيفة.. واختزال الوطن والمواطنة في هدف ذاتي وغاية مذلة؛ هو الوصول إلى موقع النيابة في الغرفة السفلى، والحصول على راتب 25 مليون وباقي المزايا السلطانية !.. ليبلغ العفن السياسي مداه البائس والخطير في أيامنا هذه، مع السباق المحموم والتكالب غير المسبوق من قبل حثالات القوم؛ الممثلين بامتياز لمجتمع الرداءة الفكرية والأخلاقية، وطغمة الفساد المالي والسياسي.. لأجل الترشح والتنافس غير الشريف؛ بغية احتلال واغتصاب منصب رئاسة الجمهورية ! لعل أكثر ما حز في نفوسنا وآلمنا، وأفسد علينا طعم الحياة، كما أفقد فينا نفس الأمل في الغد.. أشباه النخب من: مدعي الأكاديمية المزيفين، و مرتزقة النخبة الفكرية والسياسية، و بيروقراطيو الإدارة، وسفاحي القانون والأحكام القضائية، وفلول الولاء الإعلامي، فضلا عن وصوليي الثقافة و نصابيي التمثيل النقابي و”القياد” الجدد أو والوكلاء المنصبين لقيادة المجتمع المدني.. حيث يشترك جميعهم في خاصية واحدة تغذي جشعهم ونهمهم وعفونتهم؛ تتمثل في ازدواجية الشخصية والنفاق الاجتماعي، استعملوها بوقاحة غير معهودة ليقودوا حملات التغليط والتزوير تجاه الرأي العام وإرادته الحرة في التعبير والاختيار.. لإرضاء سادتهم و زعاماتهم السادية العطلة؛ من متعطشي السلطة الذين وظفوهم و أحسنوا ركوبهم تماما كما تركب المومسات من قبل كل من يدفع لها أكثر..! ؟ قبل أيام طلع علينا نموذجا سمجا لأكاديمي ”سياسيوي!” سمعته في إحدى الحوارات حول ”الجامعة والسياسية..” في قناة تلفزيونية خاصة، يفلسف مفهوم المثقف العضوي، ليقول بعظمة لسانه وبدون حياء بأن ”البلاد اليوم لا تحتاج إلى الشباب المتعلم والكفاءات بل تحتاج إلى خبرة و حكمة الشيوخ؟!” في مقاربته الموفقة لموضوع ”النخبة السياسية والنخبة الثقافية..” يؤكد المفكر المغربي ”محمد سبيلا” بأن مفهوم النخبة ” مفهوم وصفي تقريبي يشير إلى الفئات التي تحظى بنوع من التميز داخل حقل اجتماعي ما، كما تمارس نوعا من الريادة داخل هذا الحقل.” ذلك أن النخبة: مفردة جمعها النخب، وتعبر لفظة النخبة عن طبقة معينة أو شريحة منقاة من أي نوع عام. فهي الأقلية المنتخبة أو المنتقاة من مجموعة مجتمعية (متعلمي المجتمع ومثقفيه المتميزين، كوادر الدولة وكفاءات التسيير، المرجعيات الدينية والطائفية، قيادات الأحزاب السياسية المؤهلين، رجال القانون الشرفاء، الإعلاميون المحترفون، أو خبراء الاقتصاد والمالية.. وغيرهم.) حيث تمارس نفوذا مؤثرا وغالبا في تلك المجموعة؛ عادة بفضل مواهبها الخاصة والفعلية.. بالعموم هم قادة الرأي العام والمؤثرين فيه الذين يشكلون اتجاهاته، يرسمون توجهات المجتمع وبرامجه الرشيدة، كما يستشرفون آفاق المستقبل ورهاناته. في المجتمعات الديمقراطية الحديثة المتسمة بكونها فردانية، حيث تتخذ من الفرد قيمة أساسية محددة، يكون فيها هذا الأخير نواة للنظام الاجتماعي، وكيانا يتمتع بقدر من الحرية وبعدد من الحقوق المشكلة لاستقلاليته. تضطلع فيه ”نخب المجتمع” بدورها الرسالي في صناعة الوعي لأفراده وتنوير المجتمع، وقيادة حركاته المطلبية-الاحتجاجية.. بل تشكل بديلا معارضا للنظام، ومكملا له في الوقت نفسه؛ من حيث القيام بوظائف المجتمع و تحقيق دولة المواطنة والحكامة؛ من خلال فعاليتها في طرح الحلول والبدائل للمشكلات، وصناعة الوفاقات الوطنية بشأن القضايا الكبرى والمصيرية. في حين البنيات الاجتماعية والسياسية التقليدية المؤطرة للفرد في أنظمة شمولية مغلقة؛ فردية عسكرية أو وراثية أو جملكية –كما هو سائد في بيئتنا العربية وعندنا- هي بنيات تقوم على القرابة وما يرتبط بها من علاقات،أدوار ومواقع.. اظافة إلى تفعيلها للبنيات القبلية والجهوية والفئوية القائمة على علاقات العصبية و الخضوع، الولاء المنافق، والانتفاع والزبونية.. مشكلة ما يمكن تسميته ب”نخبة السلطان.” وكل من يخالفها الرأي والموقف تفبرك له تهم الضلال على المستوى العقدي، التخوين على المستوى السياسي، والعمالة الحضارية على المستوى الثقافي والفكري. و لا يحق لأي كان من صنفه المساءلة أو المحاججة والنقد. هنا يطرح سؤال الراهن الحرج: هل تخلت النخب المثقفة عندنا عن دورها التنويري في المجتمع وطرحها النقدي الاستشرافي مع السلطة ؟ لماذا لم تواكب وتنخرط و تؤطر الحراك المدني والسياسي المتصاعد ببلدنا، وفضلت الصمت أو معاكسة التيار ؟ إن الأحكام المتواترة اليوم في نبض الشارع، وفي الصحافة الوطنية تؤكد على ”الاستقالة الجماعية للنخب”؛ خاصة الاكاديمبة-الجامعية والحقوقية، فضلا عن تقاعس وغياب بل موت المثقف. على الرغم من أن مهمة النخب تحديدا ليس بالضرورة النزول إلى الشوارع والأزقة، ومواكبة المهرجانات والتجمعات السياسية، والصراخ بأعلى صوتها.. بل إن دورها الوظيفي والوطني هو المتابعة والتحليل، وإدارة النقاشات المعمقة حول القضايا المجتمعية والسياسية بروح علمية نقدية واستشرافية، والمساهمة في عقلنة الرؤية، و تجذير الممارسة السياسية وإنضاجها، فضلا عن إفشاء ثقافة التنوع والعيش المشترك. إننا نحيا اليوم –للأسف- عجزا مريعا وفاضحا لدى النخبة لإصلاح ذاتها، وعن القيام بدورها الجوهري في إنتاج وتنظيم فعل فكري- ثقافي، و تنظيم عمل سياسي راشد لصالح المجتمع والدولة. والمفكر الجزائري مالك بن نبي –رحمه الله- يقف عند مدلول الثقافة والمثقف ليعطيهما بعدا مجتمعيا عضويا؛ بل يربطهما بمصيره الحيوي إيجابا أو سلبا، فيقول: ”الفرد إذا ما فقد صلته بالمجال الحيوي قررنا أنه مات موتا ماديا، وكذلك الأمر إذا فقد صلته بالمجال الثقافي فإنه يموت موتا ثقافيا.” بل يعمم ذلك ويسحبه على المجتمع برمته؛ فيقول: ”فالثقافة إذن.. هي حياة المجتمع التي بدونها يصبح مجتمعا ميتا.” ترى متى تدرك وتضطلع نخبنا المثقفة بمهمتها القيادية في المجتمع، فتتحسس جسامة مسؤولياتها الوطنية في ترشيد العمل السياسي؛ لتحصين الوطن من المخاطر والمزالق نحو المجهول ؟