بقدر ما انتشرت كلمة ''أزمة'' في قواميسنا اليومية الحديثة، من الأزمة الاقتصادية، أزمة الديون، الأزمة الأمنية... إلا أن مفهومها لا يعرف ضبطا في كثير من استعمالاته. إن أقلّ ما يقال عن هذا المفهوم أنه متعدّد المعاني، وأن تعدّدها هذا هو ما قد جعله عصيا على الضبط. لقد دفع الحضور الكبير لهذا المفهوم في حياتنا للتدليل على تغيّرات بدرجات وبكيفيات مختلفة، في حياة الإنسان والمجتمعات الحديثة. المفكر والفيلسوف بول ريكور يتساءل عن هذا المفهوم في محاضرة ألقاها سنة 1985 بعنوان ''الأزمة.. ظاهرة حديثة خاصة؟''. الأزمة التاريخية؟ إذا كانت الأزمة قد وجدت تعريفا نهائيا لها على المستوى الشعبي، بمعنى الانسداد في كثير من الأحيان، فإن هذا المفهوم هو أكثر ضبطا في الطب وفي الاقتصاد، وهما المجالان اللذان ظهر فيهما أولا هذا المفهوم. ويذكر بول ريكور مجالين آخرين، هما فلسفة التاريخ والنمو النفسي الجسدي للإنسان. إنّنا نقترح هنا مفهوما قد يتقاطع مع هذه المفاهيم، وهو الأزمة التاريخية، وذلك لمحاولة تحليل شروط تكوّن النخب المثقفة في الجزائر وأسباب فشله، ونعني بهذا المفهوم الانعطاف (الأصل اللاتيني لكلمة Crise هو Krisis يحمل هذا المعنى) الذي يتمثل في الفترة التاريخية التي يمرّ بها مجتمع ما، ويشمل تغيّرات عميقة في بناه وتراكيبه. إذ يقوم افتراضنا على أن الجزائر مرّت بأزمتين تاريخيتين، الأولى نستطيع أن نحدّدها من سنة 1955 (إعلان فرنسا حالة الطوارئ، أحداث 20 أوت ومناقشة المسألة الجزائرية في الأممالمتحدة)، إلى سنة 1971 (تأميم المحروقات). وقد مرّت الجزائر (مجتمعا وسلطة فيما بعد)، في هذه الفترة، بتحوّلات كبيرة جدا مسّت كل قطاعات المجتمع، وقد كانت هذه التحوّلات في سنوات الستينيات كثيفة وسريعة، انتهت إلى ما نستطيع أن نقول إنه استقرار في سنوات السبعينيات على مستويات اقتصادية واجتماعية. وقد بدا، لأكثر من سبب، أن الجزائر قد تخطّت هذه الأزمة في هذه الفترة، لكن الحلول والخيارات لم تكن مناسبة. لذا، ظلّت الأزمة كامنة لتعيد الظهور مرة أخرى بشكل أكثر تركيزا نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. إن شروط ولادة المثقف مرتبطة بشكل ما بفكرة الأزمة (نفسية، اجتماعية، اقتصادية...)، لكننا نفترض أن ولادة جيل من المثقفين هو أمر أكثر ارتباطا بمفهوم الأزمة التاريخية أو العامة، فالمجتمع ينتج بشكل آلي ''جيلا من المثقفين'' للتفكير في كل أزمة تاريخية يمر بها، أي أنها (الأزمة التاريخية) شرط لازم لولادة جيل من المثقفين ومادة بحثه وتحليله فيما بعد، لكنه (هذا الشرط) ليس كافيا ليكوّن هذا الجيل نخبة مثقفة، وقد ظهر في سنوات السبعينيات في الجزائر جيل من المثقفين، لم يستطع تشكيل نُخبة أو نُخب مثقفة. جيل من المثقفين وليس نخبة لقد كانت حرب التحرير والصراع بين الجزائر والقوة الاستعمارية الذي انتهى بالاستقلال، الحدث الأهم في تفكير كل من عاشه، ثم النمو الاقتصادي الكبير في نهاية الستينيات والسبعينيات، مقارنة بما كانت عليه الجزائر سنوات الخمسينيات وغداة الاستقلال، والتغيّر في بنيات المُدن والأُسر الجزائرية ونمو نسب التعليم ابتداء من نهاية الخمسينيات من أهم أسباب ولادة هذا الجيل. لكن، ما الذي حال دون أن يُشكّل هذا الجيل نخبة أو نُخبا مثقفة متجانسة؟ إنّ هناك على الأقل ثلاثة أسباب: الأول: محاربة النظام السياسي لأي حركة مجتمعية ذاتية التفكير، التسيير والحركة: حلّ الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين في جانفي 1971 ، حظر الأحزاب والجمعيات، التدخل في النقابات... الثاني: افتقد المثقف (أكثر المثقفين كانوا من الفرنكفونيين) لدور له في المجتمع الجزائري، وغاب نقده للسلطة التي استعملته كإداري لتسيير الدولة الفتية، وبالتالي لم يكن مؤثرا لا في المجتمع ولا في السلطة، وأدى هذا، إضافة إلى التعريب المكثّف والسريع، إلى الشعور العميق بالاغتراب لدى مثقفي السبعينيات الذين بحث أكثرهم عن حلول فردية لهم، كالهجرة مثلا. الثالث: أن الثقافة والمؤسسات الثقافية كانت مجرد صدى وأدوات لايديولوجيا الدولة. ملاحظة: لا يتسع المكان للإجابة على أسئلة مهمّة ذات علاقة بالموضوع مثل: لماذا النخبة؟ علاقة المثقف الجزائري بأفكاره وبالمعرفة بشكل عام.