الإدارة لم تنصفهم والمجتمع لم يرحمهم تعد مهنة عمال النظافة من أنبل وأصعب المهن إن صح التعبير، لأن عمال النظافة يعتبرون جنود الخفاء في إظهار الوجه المشرق للمدينة إلا أنهم يواجهون سوء المعاملة والاحتقار والنظرات الدونية للمجتمع.. بل أكثر من ذلك يُنعتون ب”الزبالين” في كثير من الأحيان لا لشيء إلا لأنهم اختاروا أو أجبرتهم الظروف للالتحاق بهذه المهنة الشريفة، حيث قبلوها رغم قلة الراتب ومشقة العمل. يقف عمال النظافة وراء حملة الجزائر البيضاء، ولهذا أردنا الاحتكاك بهم ونقل وقائع وأحداث عايشوها أثناء أداء مهامهم. واستطعنا أن نقف على معاناة بعض العمال الذين ذكروا لنا أنهم يواجهون مشاكل يومية عديدة بسبب تدني المستوى الثقافي والحضري والمدني للمواطنين الذين ينظرون إليهم نظرة ازدراء ويعاملونهم معاملة دونية، ولا يتوانون عن رمي القمامة على مرأى من أعين العمال أنفسهم. متاعب وسوء معاملة في انتظارهم كل يوم في البداية وجدنا صعوبة في الحديث معهم، إذ لم نتمكن من كسب ثقتهم حتى أخذوا ضمانات أننا لن نذكر أسماءهم خوفا من فقدان عملهم. أجمع عمال النظافة على أن المتسبب الأول للقمامة والمنظر المشوه للعاصمة هو المواطن بالدرجة الأولى، فهو لا يلتزم بالمواعيد الخاصة برمي النفايات، فالكثيرون يرمونها خارج الأوقات المخصصة لذلك، ما يصعب مهمة تنظيف الشوارع. وحسب العمال فإنهم يبدؤون عملهم باكرا وبمجرد إنهاء أعمالهم وإماطة كل القاذورات يسارع الكثيرون لرميها مجددا، غير مبالين بالمجهود الذي قاموا به بل، ويقوم العديد منهم برميها من شرفات منازلهم وسياراتهم.. والويل لمن تذمر فيرد عليه بعبارات ”خدمتك”، ”أنت زبال وبالسيف عليك ترفد”،”راك خالص”.. و غيرها من العبارات الجارحة التي تصل في بعض الأحيان - يقول محدثنا - إلى محاولة الاعتداء الجسدي. تروي مواطنة حادثة عايشتها شخصيا حين كانت طالبة بجامعة الحقوق، وكان موقف الحافلات ببن عكنون مسرحا لها، تذكر يومها عامل النظافة الذي كان يبلغ الخمسينيات، تبدو على محياه آثار مشاكل الحياة، كان يدفع عربته ويكنس الرصيف وفي غفلة منه ارتطمت عربته بحافلة مركونة.. لينزل السائق ويعنفه بشدة. ولم يكتف بهذا بل قام بضربه.. تقول محدثتنا يومها لم تتحمل المنظر.. لما هذه المعاملة القاسية والنظرة الدونية، فلولاهم لغزتنا مختلف الأمراض البدائية.. ظروف عمل قاسية مقابل منح قليلة ورغم أن مرتباتهم لا تسمن ولا تغني من جوع (18 ألف دج) غير كاف حتى لسد الحاجيات الأساسية لأسرة، إلا أن عمال النظافة يرجون الحصول على مرتباتهم كاملة ودون تأخير على الأقل. يقول عباس، عامل ببلدية القبة: ”أعمل منذ 14 سنة كعامل نظافة، لا أزال لحد الساعة غير مرسم، أعمل بعقد متجدد كل 6 أشهر ولا يزيد أجري عن 18 ألف دينار، وهو مبلغ جد قليل مقارنة بالأضرار والمخاطر التي تحدق بنا طيلة اليوم في ظل ظروف العمل القاسية، الأمراض والأوبئة وانعدام الوسائل الصحية التي من شأنها حمايتنا من مخاطر القمامة والمفرغات، فهناك من لا يجد حتى مبلغا للعلاج خاصة من كان غير مؤمن اجتماعيا، وهو ما يجعلنا عرضة لشتى أنواع الأمراض التي تنتقل عن طريق القمامة”. ويضيف محدثنا أنهم يحصلون مرة في السنة على بذلة العمل و الحذاء والقفازين اللذين يتمزقان بعد ثاني أوثالث استعمال. يروي لنا عباس أنه سقط مرتين عن شاحنة النفايات إلا أنه لم يستفد من عطلة مرضية، إذ أخبره المسؤول المباشر أنه مادام يستطيع الوقوف فيمكنه العمل!. وأضاف أنه في إحدى المرات أصيبت رجله بقضيب حديدي فاضطر زملاؤه للتخلي عنه لأنهم مقيدون بالوقت، لينتقل وحده وبإمكانياته الخاصة إلى المستشفى لتلقي الإسعافات اللازمة. وغير بعيد عن عباس، يحدثنا مالك أنه بإحدى مناوبات عمله اخترق مقص حذاءه ليستقر برجله، إلا أنه لم يتحصل على عطلة مرضية لرفض المسؤول المباشر عنه تسجيل الحادثة على أنها حادثة عمل، واعدا إياه بالحصول على يوم راحة.. واقع مرير يدمي القلوب.. أما لمحمد قصة أخرى، ففي إحدى خرجاتهم سقط صديقه من شاحنة النفايات نضرا لاهتراء القضبان التي يتشبثون بها، لتدهسه هذه الأخيرة في غفلة من السائق وينتهي به المطاف مبتور الرجل. فتحي، شاب وسيم في مقتبل العمر، يخبرنا:”لم أجد عملا خاصة أنني لا أملك مؤهلا دراسيا، لذا قبلت مكرها العمل وبدون تأمين صحي، نعم أقبل أن يتم استغلالي.. الله غالب الخبزة”. ولعبد النور حكاية أخرى، إذ يقول:”في البداية أخبرونا أننا سنعمل بمناصب دائمة وبأجر 18 ألف دج، لنصطدم بواقع أننا نعمل بعقود منتهية الصلاحية وبمبلغ 12 ألف دج فقط، لتبدأ معاناتنا مع المحسوبية والجهوية في التعامل، إذ يصل بنا الأمر للقيام بأعمال ليست لنا وإن تكلمنا يتم إسكاتنا إما بتغيير مقر عملنا أوبحرماننا من عطلنا أوبتكليفنا بمهام أخرى، لا لشيء إلا لأننا أناس بسطاء على قدر حالنا”. ويضيف محدثنا أنه بإحدى مناوباته تعرض لوخزة مسمار، لينتقل على إثرها إلى المستشفى لأخذ لقاح الكزاز، أيضا بإمكانياته الخاصة. كما أكد لنا ذات المتحدث أن طبيب العمل بالبلدية غائب في أغلب الأحيان. لننتقل بعدها إلى حميد، صاحب الملامح الطفولية البريئة، يبلغ من العمر 23 سنة ومتحصل على شهادة تقني سامي في التسويق وشهادة في السباكة، بدأ العمل مبكرا مجبرا بعد وفاة أبيه باعتباره أكبر إخوته، يقول: ”كنت في ال 17 من العمر، أذكر حينها أنه عندما ذهبت إلى البلدية بحثا عن وظيفة كعامل نظافة، وفعلا تم قبولي بنفس اليوم وبدون أخذ وثائقي الشخصية، لذا تم تشغيلي دون الانتباه إلى أنني قاصر ولم أؤمن اجتماعيا، لأنتقل بعدها إلى مؤسسة خاصة، تم توظيفي على أساس أنني عامل نظافة لأفاجأ في أول يوم عمل انتقلنا إلى محطة تصفية المياه، ليتم إنزالنا بأحواض المياه لتنقيتها من الرواسب الكلسية والكيماوية دون قفازات أو أقنعة واقية، ولما رفضت العمل وطلبت المغادرة.. تم احتجازي حتى أنجز المهام الموكلة إلي.. وكان آخر يوم لي كعامل نظافة”. وفي رحلة بحثنا، التقينا بالسيدة صباح، أرملة المرحوم قدور، أحد سائقي شاحنات نقل النفايات، الذي توفي في حادث عمل إثر دهسه من طرف سيارة بالطريق أثناء تأدية وظيفته، تقول صباح:”توفي زوجي بعد 32 سنة من العمل بالقطاع تاركا وراءه 5 أطفال قصر، أحدهم معاق حركيا بنسبة 100 بالمائة، نعيش حاليا على إعانة المحسنين نظرا لتماطل صندوق التأمين الاجتماعي عن تعويضي عن حادث العمل.. أنا راضية بقضاء الله وقدره ولكني بحاجة ماسة لمعيل، خاصة لابني المعاق الذي هو بحاجة لتكفل طبي ورعاية خاصة.. فهل هذا جزاء من أفنى عمره في الخدمة؟!”. المصلحة الاجتماعية ل”نت.كوم” تؤكد تأدية مهامها أكدت السيدة مهدي، رئيسة المصلحة الاجتماعية المكلفة بطب العمل ب”نت.كوم”، أنها تشدد اللهجة مع المسؤولين المباشرين للعمال لتسجيل حوادث العمل وإرسالها في أجل أقصاه 48 ساعة، عملا بالمادة 4807 من قانون الوقاية من الأخطار المهنية، وأي تأخر ينجر عنه غرامة مالية تدفعها المؤسسة لصندوق الضمان الاجتماعي. وأردفت السيدة مهدي أن مسؤولية عدم التصريح بحوادث العمل ترجع إلى عمال النظافة، لعدم معرفتهم بكامل حقوقهم والمسؤول الأول والمباشر عنهم الذي لا يصرح بالحادثة. وأضافت أن الشركة تقوم بتكوين العمال لتمكينهم من معرفة حقوقهم والأخطار المحدقة بهم، وتوعيتهم وحتى تعليمهم كيفية حمل أكياس القمامة بطريقة تضمن لهم سلامة العمود الفقري والتأكيد على ضرورة ارتداء القفازات لتجنب أكبر قدر من الإمكان الجراثيم المسببة للفطريات والإكزيما وأمراض الحساسية. وبخصوص الأمراض الأكثر انتشارا بين عمال النظافة تذكر السيدة مهدي الكزاز، الجرب، والتهاب الكبد الفيروسي. وفي هذا الصدد ذكرت المتحدثة أن جميع العمال يتم تلقيحهم ضد الكزاز، ونبهت أن المتسبب الأول والأخير للأخطار التي يتعرض لها عامل النظافة، هو المواطن الذي يرمي أي شيء دون أدنى مسؤولية. عمال النظافة، على الرغم من رواتبهم الشحيحة مقارنة بساعات العمل المتعبة تحت حرارة الشمس وصقيع البرد، يعانون أيضا من المعاملة الإدارية القاسية، منها عدم التصريح بحوادث العمل وعدم تعويضهم عنها في الآجال اللازمة وكذا عدم توعيتهم بحقوقهم، بالإضافة إلى نظرة المجتمع التي جعلت منهم فئة منبوذة ينظر إليها بدونية، فقد يمرض أحدهم و يموت لأنه لا يملك مصاريف العلاج. كما أن العديد منهم يعملون دون تأمين وفي ظروف قاسية.. كل هذا ليجدوا أنفسهم في أسفل طبقات المجتمع..