هل يمكن أن نتصور حيا أو مدينة دون عمال نظافة؟ بالتأكيد لا، لأن غياب هؤلاء الرجال عن العمل سيجعل الحي أو المدينة فريسة للنفايات والفئران والحشرات والروائح الكريهة.. إن الدور الذي يلعبه هؤلاء العمال لا يمكن أن يقدّر في مجتمع مازال ينظر إلى المنظف على أنه ''زبال'' لا يملك مؤهلا علميا. الروبورتاج الذي قمنا به سمح لنا باكتشاف حقائق كنا نجهلها، فمن بين هؤلاء الرجال الذين يسهرون على جمع القمامات هناك خريجو جامعات، يحملون شهادات الليسانس والماستر وهناك من أصبح إطارا ومديرا في هيئات ومؤسسات مهمة، تمكنوا من تحقيق هذه القفزة بفضل ''تواضعهم وحبهم للمهنة وتجسيدهم الفعلي لمقولة ''خدام الرجال سيدهم''. يواجهون التهميش وتجاهل السلطات انعدام وسائل العمل يعرّض عمال النظافة للمخاطر يمثل عمال النظافة 30 بالمئة من مجموع عمال البلديات، وهي الفئة الأدنى أجرا والأسوأ وضعية، يواجهون الأخطار والأمراض ولم تتحرك الوصاية رغم النداءات الدائمة لتحسين وضعيتهم، وهم الذين يلعبون دورا محوريا في الحفاظ على البيئة. تحدث رئيس نقابة البلديات علي يحيى ل''الخبر''، بإسهاب عن وضعية هذه الفئة التي قال عنها بأنها مهمشة كثيرا، حيث يصل العدد الإجمالي للعمال فيها عبر الوطن إلى 100 ألف. وحسب علي يحيى، فإن الأجر القاعدي للعامل الجديد مثلا لا يتعدى 9 آلاف دينار، وهولا يتناسب حتى مع الأجر الوطني في حين لا يتعدى الأجر الإجمالي لجميعهم 20 ألف دينار، وهو إجحاف كبير، حسبه، لعمال يواجهون اليوم مشاكل اجتماعية بالجملة، حيث أصبحوا عاجزين عن مواجهة متطلبات الحياة الكريمة من أكل، وملبس ومسكن وغيرها من الضروريات. في المقابل، أشار رئيس نقابة البلديات إلى معضلة وسائل العمل المغيبة والتي أثرت سلبا على العمال والتي ساهمت، حسبه، في موت عدد كبير منهم، قبل الوصول إلى سن الستين أي أنهم بمجرد إحالتهم على التقاعد يلقون حتفهم بسبب المرض وأحيانا قبل ذلك، وهذا إجحاف بحقهم، يضيف علي يحيى، في حق عمال أفنوا حياتهم في ضمان محيط نظيف للآخرين، مشيرا إلى أنه يفترض أن يزوّد العمال بألبسة وأقنعة واقية من الأخطار، بالإضافة إلى قفازات وأحذية خاصة، إلا أن معظهم يعملون دونها، بالإضافة إلى غياب طب العمل. فرغم أن أمراضا مختلفة وعلى رأسها الأمراض الجلدية تحدق بهم، إلا أنهم لا يستفيدون من اللقاحات التي تجنبهم الإصابة بهذه الأخيرة، في غياب حتى الحمامات التابعة للبلديات والموجهة لهذه الفئة بالتحديد، التي يفترض أن يستحم بها العامل بعد نهاية دوام العمل. كما أثار محدثنا إشكالية أخرى تعاني منها هذه الفئة، بعد تسليم شاحنات النظافة إلى خواص يقومون بعدها بتوظيف عمال لا يصرّحون بهم، ما يحرم هؤلاء من الاستفادة من الضمان الاجتماعي. شاهد من أهلها المكوّنة في الوقاية من الأخطار المهنية ليلى مهدي تحذر عمال النظافة معرضون لأمراض معدية خطيرة كالسيدا والكبد الفيروسي بول الفئران قد يعرّض عامل النظافة إلى الموت بما أن عامل النظافة ينشط في محيط تغزوه النفايات، ما هي الأمراض التي تهدده؟ يمكن أن نقول إنه معرض لكل الأمراض المعدية خاصة إذا لم يكن محميا بواسطة وسائل العمل، منها الأمراض التنفسية والحساسية بأنواعها خاصة الجلدية منها بسبب المواد الكيميائية. ما هي أخطر هذه الأمراض؟ الأخطر هي الأمراض التي تتسبب فيها المواد الطبية التي ترمى بطريقة غير قانونية في المزابل، وأحيانا ينقلها العامل عبر قارورات الدم أو حتى الحقن التي يستعملها متعاطو المخدرات الحاملون لفيروسات خطيرة كالسيدا والكبد الفيروسي. وهنا أريد أن أذكر التجاوز المسكوت عنه حاليا للعيادات والمخابر الطبية التي تقدم على رمي هذه المواد الطبية بطريقة عشوائية، تهربا من الضريبة التي تدفعها مقابل حرق هذه المواد في مراكز خاصة، يضاف لها خطر الإصابة ب''ليبتوسبيروز''. وما معنى هذه الإصابة؟ هو خطر حقيقي مآل صاحبه الموت، يتسبب فيه بول الفئران فوق النفايات، فإذا أقدم العمال بعد لمسه لهذه الأماكن على الأكل أو الشرب أو التدخين فسيموت مباشرة. كيف تجنبون العمال مثل هذه الأخطار؟ هو ما نعمل عليه داخل المدرسة، فالعامل قبل التحاقه بمنصبه يخضع لتكوين لمدة 15 يوما في جميع المجالات بما في ذلك الأخطار المهنية، حيث ينصح دائما بارتداء لوازم العمل وتفقد النفايات قبل حملها وحثه على الطريقة المثلي للقيام بذلك، كما أن العمال يخضعون لأنواع عديدة من اللقاحات ضد الدفتيريا والفيروس الكبدي. من عمال نظافة إلى أسياد مجتمع وقفنا خلال الزيارة التي قادتنا إلى مدرسة النظافة التابعة لمؤسسة النظافة والتطهير ''نات كوم''، على حالات كثيرة تحوّل فيها عمال النظافة الحاملون لشهادات جامعية إلى نجوم تطالب أهم المؤسسات بتوظيفهم، حيث وجدنا عمي شريف مقراني الذي تحدث عن ابنه الذي هاجر إلى فرنسا بعدما طلبته إحدى المؤسسات، حيث التحق ب''نات كوم'' بعد بطالة لمدة سنتين، رغم أنه بمؤهل ثلاث شهادات ليسانس، وحدث أن شاهدوه في التلفزيون يتكلم عن عمال النظافة، فتمت دعوته ليدير اليوم شركة ألمانية بفرنسا لبيع قطع الغيار، وهو مستقر بها منذ ثلاث سنوات. حالة أخرى لشاب آخر بحوزته شهادة ليسانس، اختار العمل بالنظافة لحاجته للمال وشح الوظائف، ليأتي الفرج بعد سنتين حيث استدعاه بنك التنمية المحلية وهو اليوم أهم إطاراتها، ليجد الوظيفة التي تناسبه بعدما كانت انطلاقته المهنية العمل في مجال النظافة. حالات أخرى التحق بها الشباب كعمال نظافة متكتمين على مؤهلاتهم العلمية، وبعد اكتشاف مستواهم العلمي، تم تحويلهم إلى مناصب إدارية تتلاءم وشهاداتهم، وبذلك يصبح العمل في التنظيف مرحلة انتقالية لعدد كبير من العمال الذين لم يتعالوا على نوع المهنة التي حوّلتهم، بين عشية وضحاها، إلى أسماء بارزة في مجالات مختلفة. رغم أهميتها في التكوين نقص مدارس تعليم النظافة أثّر سلبا على المحيط تعدّ مدارس النظافة قاعدة أساسية في الدول المتقدمة، تكوّن آلاف العمال سنويا للقيام بمهام النظافة على أحسن وجه، تحمي المحيط والعامل معا، إلا أن عددها في الجزائر يقتصر على مدرسة وحيدة لا تلبي الطلب الوطني. وحسب مديرة مدرسة النظافة التابعة لمؤسسة ''نات كوم''، السيدة زهية ياكار، فإن المدرسة لم تعد تكتفي اليوم بتكوين عمال البلديات ال28 التابعة لها بالعاصمة، بعد أن أصبحت تتلقى طلبات من بلديات أخرى بالعاصمة وخارجها لتكوين عمالها. وأكدت في ذات السياق على أن التجربة حققت نجاحا مشهودا باكتساب عمال النظافة ثقافة التنظيف، فبمجرد قبول ملف أحدهم يوجه إلى التكوين لمدة 15 يوما، أسبوعه الأول نظري والثاني تطبيقي، حيث يشرف على العملية أساتذة متخصصون في عدة مجالات في كيفية استعمال وسائل العمل، وكذا الطرق المثلى لحمل النفايات، بالإضافة إلى الحقوق والواجبات وكيفية الوقاية من الأخطار. ونوّهت المتحدثة إلى أن التكوين انعكس إيجابا على سير عملية التنظيف وتفادي الكثير من الحوادث، إلا أن أهم ما يتلقاه العامل بمجرد مباشرته العمل هو تجريده من عقدة الخجل، وهو ما تحدثت عنه فاطمة زقان، المكلفة بالتحسيس والاتصال بالمدرسة، التي ذكرت أن عددا كبيرا منهم يلتحق بالمدرسة وهم في حالة إحباط، إلا أنهم وبعد الحديث عن أهمية العمل والدور الذي يؤدونه يتخلصون من عقدهم.
بورتري يعمل ليلا ويدرس نهارا عبدالقادر عمران.. عامل نظافة بدرجة ماستر بسيط، متواضع، تلقائي وشجاع يتكلم عن عمله دون عقدة. ظلمته الظروف فلم يجد عملا في مجال تخصصه بعدما أوصدت في وجهه كل الأبواب مثله مثل آلاف الشباب الجزائري، فلجأ إلى مؤسسة ''نات كوم'' التي يعمل بها منذ 15 شهرا، وبالموازاة هو اليوم طالب ماستر بجامعة سعد دحلب بالبليدة تخصص أنظمة الرؤية والآلية. هو من مواليد 26 جوان 1985 بمدينة الأربعاء بولاية البليدة، اجتهد في دراسته وكان دوما مع الأوائل، منذ صغره وهو يحلم بأن يكون ذات يوم إطارا ساميا بالدولة. ولشغفه الكبير بمجال الصور وتفاصيلها، التحق بجامعة سعد دحلب بالبليدة التي تحصّل منها على شهادة ليسانس في أنظمة الرؤية والآلية، على أمل التوظيف بعد التخرج، فخانته الظروف ولم تفتح له الأبواب التي طرقها منذ تخرجه، يقول إنه تردد كثيرا قبل أن يختار اللجوء إلى العمل كمنظف، والسبب، حسبه، نظرة الآخرين التي وصفها بالقاسية. إلا أن تفكيره في والده الذي يعمل في المجال ذاته، شجعه على أن يقتدي بالرجل الذي نجح في تربيته هو وإخوته وأوصلهم إلى المراتب العليا في الدراسة والذي يستحق أن يكون مثلا يقتدى به، وبالموازاة سجل عبدالقادر في الماستر، يعمل ليلا ويدرس نهارا، متحليا بإرادة فولاذية لدرجة أنه نال إعجاب واحترام أساتذته بعد علمهم بالأمر، وأثنوا على انضباطه رغم التعب الذي ينال منه طيلة الليل. عبدالقادر يحلم اليوم بحصوله على الماجستير وإنجاز دراسة يكافئ بها مؤسسة ''نات كوم'' التي قال إنها منحته كل التسهيلات. رسالته إلى الشباب من أمثاله أن لا يحتقروا أي مهنة شريفة، ومسافة الألف ميل، حسبه، تبدأ بخطوة وعلى المرء الاجتهاد للوصول إلى مبتغاه، متأسفا لنظرة الناس لعامل النظافة ورفضهم للنصيحة، لأنه يتذكر دائما عندما يطلب من مواطن وضع النفايات في المكان المخصص لها، يقابل بالقول ''إننا في الجزائر وليس في أمريكا''، وهنا علق أنه لا يمكن أن نبقى بهذه ''العقلية'' إذا أردنا أن نحافظ على نظافة مدننا.