تبدو العاصمة مدينة مفرطة في كل شيء، في الحديث والضجيج وإهدار الوقت وزحمة الصباح. الناس كلهم مستعجلون ومهرولون، كأن لا بطالة في هذا البلد. الكل يريد أن يصل في الوقت وكأننا لا نهدر المواعيد ولا نغتال الساعات والأيام في العبث والدوران والكلام الفارغ. جزائريون كلهم يريدون الدخول والخروج في نفس التوقيت.. كلهم بطالون، كلهم يشتغلون، متواجدون في كل مكان ويتحدثون في كل شيء ويفهمون أيضا في كل شيء، وبارعون هم في الثورة والغضب من كل شيء.. الكل يشتكي من انغلاق الأفق، الكل يريد أن يهاجر، الكل يبحث عن فرصة أفضل، الكل يريد لكن لا أحد يصنع.. معادلة لن يفهمها إلا جزائري مثلهم، هكذا يقول سعيد، سائق تاكسي في العاصمة. عندما عرض علي هذا الرجل أن أرافقه في يوم عمل في التاكسي الذي يشتغل به منذ 25 سنة، اعتبرتها في البداية مزحة أو مجاملة وأنا أحدثه عن مشاكل مهنته، لكنه بدا لي جادا في دعوته.. ”لو حدثتك عن مشاكلي ربما لن تصدقي، تعالي وعيشي معي يوما فقط وسترين بعينك لكن فقط لا تقولي أنك صحفية”. قبلت دعوة سعيد وركبت معه سيارته في صباح عاصمي، كانت بداية الأسبوع والمدينة في قمة جنونها الصباحي، زعيق السيارات والحافلات وهرولة الناس للظفر بمكان في حافلة أو تاكسي في أي اتجاه، الشغل، المدرسة الجامعة، قضاء مصالح إدارية أوحتى التسكع في الأزقة والمقاهي.. المهم الخروج من البيت وكفى. من محطة القطارات بدأت جولتنا، كنت أجلس جنب السائق وأراقب سحنات الراكبين والنازلين، مهمة ممتعة وأنا أسترق السمع وأتفرج على ردود الأفعال وأتسلى بالجنون الصباحي للمدينة، والوقت جثة على قارعة الطريق يتسلى الكل بركلها. القانون يحدد مبلغ الإيجار بألف دج شهريا و”الطاكسيور” يدفع أربعة أضعاف ”حتى هنا تلحقك الجهوية، هناك مجموعة تسيطر على تسيير هذا الموقف والخارج عن دائرة الجماعة سيعاني من أجل الظفر بمكان بينهم”، قال سعيد وهو يفتح معي أول حديث في انتظار أن يفتح الله بأول زبون. منذ متى وأنت تشتغل في هذه المهنة قلت لسعيد؟.. منذ 25 سنة - قال - في البداية كان قرارا مؤقتا حتى لا أبقى بطالا ثم تزوجت وأنجبت وصارت مهنة إجبارية لأنني لم أجد مهنة غيرها. جميلة سيارتك.. قلت وأنا أحاول التخفيف من لهجة الشكوى التي انطلقت من حنجرة هذا الرجل، ابتسم باستهزاء وقال ليست سيارتي، إنها لزوجة شهيد وأنا استأجرت الرخصة منها ولعلمك أن القانون يحدد مبلغ الإيجار بألف دج في الشهر ولكني أدفع لها شهريا أربعة آلاف دج، ور غم هذا لا تتوقف عن الابتزاز والتهديد بسحب رخصة الإيجار مني وكرائها لشخص آخر مستعد لإعطائها مبلغا أكبر، ولأنني لا أملك مهنة غيرها للعيش فأنا أدفع وأسكت.. أين نقابة الناقلين قلت؟ ابتسم وقال ”الوزارة أحسن من النقابة، هذه الجماعة لا تهتم إلا بمصالحها، قد تجدين أحدهم يملك أكثر من تاكسي وأكثر من رخصة ايدوّر بها واش راحلو في البسطاء أمثالي؟؟”. السلام عليكم، قال شاب يقترب من سعيد، ها قد جاء زبون، إلى الخروبة قال الشاب، ”خمسين ألف” أجاب السائق، تذمر الشاب ولكنه أخذ مكانه وقال انطلق. من مرآة الزجاج الأمامي كنت أراقب وجه الشاب يبدو على أهبة السفر إلى مكان ما، قال متذمرا ”القطارات في إضراب، ما راناش عارفين إلى متى يستمر هذا، راني رايح لوهران القطار مكانش همالا ندوروها تاكسي”. ربي اسهل خويا، قال التاكسيور بالعقل برك، ”واش من العقل بقا لك في هذا البلاد؟؟” أجاب الشاب الحانق من نفسه. وشبيها البلاد قلت، ما استفز الشاب الذي نظر إلي باستغراب وقال: ”واقيلا ما راكيش عايشة في الجزائر؟”، ضحكت و قلت لا يا أخي هون عليك لن تغير شيئا. ”البلاد الداها السيد كي يمرض ادير حقنة بسبع ملايين وأنا ما لقيتش فاش نروح؟”. من هذا؟ الرئيس نتاعك.. قال وهو ينزل عند محطة الخروبة. ”القزولة” للدفاع عن النفس من الإعتداءات نظرت إلى سعيد وقبل أن أقول أي شيء قال هو”الجزايريين يعرفوا كل شيء حتى الرئيس واش يدير، في أيام الحملة الانتخابية مرضوني، التاكسي تحول إلى استوديو تلفزيوني، كثيرا ما يتشاجر الزبائن بسبب بوتفليقة وبن فليس، ولكن نصيحة لوجه الله أضاف قائلا: لا تتدخلي في مثل هذه النقاشات لأنك لا تعرفين مع ”اشكون أطيحي”، أنا نسايس ونساعف ونقول فقط نعم، لأني أعرف الكثير من زملاء مهنتي كانوا ضحايا اعتداءات وشجارات لزبائن وصل بعضها إلى الضرب والتجريد من الممتلكات، مثل المال والهاتف النقال، خاصة في الليل. لهذا أنا أحمل دائما معي شيئا احتياطا للدفاع عن النفس، وأخرج من تحت المقعد”قزولة”. زبائن يشتكون غلاء ”الكورسة” والطاكسيور يشتكي قلة الربح ألا ترى أن الأجرة التي طلبتها من الزبون كانت كبيرة نوعا ما؟. لا : قال سعيد مدافعا عن نفسه ”هاذاك هو، لعلمك أنا لا أربح الكثير بالنظر لما علي من التزامات، فزيادة على مبلغ الكراء لصاحبة التصريح بملكية السيارة والوقود وقطع الغيار ومصاريف الاعتناء بالسيارة والمراجعة التقنية، علي أن أدفع مبلغ 9 آلاف دج للضرائب زيادة على التأمين على الزبائن والسيارة، يعني راني خاسر في لافار”. وأضاف قائلا ”تخيلي أن ثلاثة أشخاص يركبون الحافلة من بن عكنون إلى ساحة الشهداء فيدفعون ”تسع آلاف” وهم في ظروف كارثية، وأنت تعرفين جيدا حافلات ساحة الشهداء بينما يدفع الثلاثة مبلغ ”سبع آلاف” لو أخذوا تاكسي. لهذا صار أغلب سائقي الأجرة يرفضون العمل بالمكان ويفضلون ”الكورسا” وصرنا نتجنب أيضا المسالك الصعبة والإتجاهات التي تكثر فيها الزحمة، تخيلي مثلا من بن عكنون إلى الأبيار مسافة عشرة دقائق نقطعها في ثلاث ساعات، هذا جحيم بعينه، زيادة على حرق الأعصاب وتذمر الناس، تهدر يومك باطل دون أن تكون قد جمعت حتى حق البنزين الذي أحرقته. لهذا طالبنا مرارا الوزارة والنقابة بإعادة النظر ليس في التعسيرة، لكن في طريقة برمجة وعمل العداد لكن لا حياة لمن تنادي. في هذه الأثناء صعدت سيدة تطلب اتجاه الرويسو، كان التعب باديا عليها وهي تجر قفتها لم تلتقط أنفاسها عندما رن هاتفها، صوت مؤنث على الطرف الآخر بدأت قصة مشكلة عائلية ما خليط من الأسماء والمبالغ المالية في حديث المرأة التي كانت تتحدث، وكأنها في بيتها وليست في تاكسي جماعي. قبل أن نكمل نصف الطريق، ركبت سيدة أخرى تقصد ساحة أول ماي، لحظات فقط فتحت حديثا مع جارة التاكسي، حديث بدأ عن زحمة الشوارع وغلاء الأسواق وانتهي بمشاكل الأبناء و”العرايس”، وحلم سكنات عدل التي قد تعالج جزء من مشاكلها. الأخرى قالت لها ربما مجرد حملة انتخابية فقط لتؤكد الأخرى أن الناس تستبشر خيرا بتعيين الحكومة الجديدة لكن جارتها الأكبر سنا قالت ”بوه حكمة النساء ما حلوهاش الرجال يقدروا عليها النسا، يا بنتي ربي يجيب الخير برك..”. سعيد أيضا لديه ما يدفعه لرفع نفس الدعاء ”ربي يجيب الخير” فهو دائما في صراع من أجل الظفر بمكان لركن سيارته أوالخروج من الملاسنات اليومية مع ”الكلوندستان” الذين يتكاثرون مثل الفطريات. والغريب أن الشرطة لا تتدخل في كثير من الأحيان لصالح ”التاكسيور” رغم أنه يشتغل بوثائق، يقول سعيد. 15 ألف تاكسي في العاصمة والنقل في أزمة في العاصمة قرابة 15 ألف تاكسي، لكن أزمة النقل مطروحة خاصة في ساعات الذروة وتبلغ أوجها في آخر النهار، وكذا في بعض الاتجاهات لكثرة الاعتداءات وانتشار حوادث السرقة ونشاط قطاع الطرق، التي لم يسلم منها سائقو التاكسي. مهنة في حاجة لإعادة التنظيم، لكن سعيد لا يبدو مكترثا للأمر حال من حال البلاد قال. عند الساعة الثانية والنصف زوالا، كان سعيد قد طاف بأغلب أحياء وشوارع العاصمة وضواحيها، في الطريق الرابط بين باب الزوار ووسط العاصمة. كان سعيد هذه المرة يحادث شابا بكل تلقائية وبدون تحفظ، لأن الحديث كان يتعلق بكرة القدم وليس بالسياسة، حظوظ الفريق الوطني في المونديال القادم سحر الكرة الاوروبية وهيام الجزائريين ب”البارصا” والريال وكوارث البطولة الجزائرية، وكيف أصبح الجلد المنفوخ طريق لممارسة السياسية في الجزائر ولجوء الشباب وبحثه عن الفرحة والافتخار ببلده وبالراية الوطنية في أهازيج الملاعب، بعدما نكست رأسه الهزائم اليومية في هذا البلد. حديث يأخذك بعيدا في تحليل نفسية هذا الجزائري الذي يبدع في إعطاء التفسيرات والتحليل لكل شيء من السياسية إلى كرة القدم ”كل جزاري عندو دولة في راسو”، يقول سعيد سائق التاكسي ومثلهم هو مستودع أسرار لثرثرة البسطاء، عليه أن يتحمل كل شيء من تذمر الزبائن وثرثرتهم اليومية إلى جنون الشوارع ومرضها المزمن المتمثل في الزحمة إلى مزاج الشرطي وزملاء المهنة، وعندما أدخل إلى بيتي أكون قد استهلكت كل طاقة ممكنة لاحتمال أي نقاش أو جدال عائلي ”ربي يجيب الخير”، قال وهو ينزلني في شارع حسيبة بن بوعلي ”اتهلا في روحك خويا”، ”يسلمك أختي أنا والفت” ابتسمت ورددت معه ”ربي يجيب الخير.”