يقول ابن عطاء الله السكندري: ”إذا أردت أن يفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك، وإذا أردت أن يفتح لك باب الخوف فاشهد ما منك إليه”. إذا توجهت لتشهد ما يفد من الله إليك، رأيت نفسك في خضم بحر مائج لا شطآن ولا قرار له من نعم الله ومنحه.. من ذلك ما يفد إليك من العالم العلوي، كواكبه وأفلاكه ونظام سيره وخدماته النوعية العجيبة لك، ومن ذلك ما يفد إليك من الأرض التي تحتضنك وتعيش فوقها، من النباتات والأقوات والأطعمة الكثيرة المتنوعة التي تنمو على وجهها، والذخر المتكاثر في داخلها، ونظامها الذي يجعلك تستقر فوقها والمياه المتفجرة في جنباتها.. ومن ذلك ما يقبل إليك من الجوّ الذي يعلوك ويحيط بك متمثلاً في الغلاف الجوي الخاضع لشروط استمرارية حياتك، والرياح الهابة من حولك والماضية مع السحب في أداء خدماتها الكثيرة المتنوعة لتحقيق المزيد من أسباب رغد عيشك. ومن ذلك النظام الدقيق والعجيب الساري في كل جزء، بل جزئية في كيانك من فرقك إلى قدمك، محققاً لك شروط الحياة الآمنة، واقياً لها من سائر المخاوف والأخطار. تلك عناوين مجملة لمصادر الرحمة الإلهية الوافدة منه إليك. ولو أنك تجاوزت العناوين إلى التفاصيل الزاخرة تحتها، لاستغرق الحديث عن كل مصدر منها العمر كله. تأمل مثلا فيما تنطوي عليه الأرض من عوامل استقرارها، والأسباب التي جعلت منها مهاداً، وأنواع الذخر الذي أُودِعَ لك في باطنها، ومظاهر الخير التي تفجر لك في ظاهرها وملايين الأنواع من النباتات المخضرة على وجهها، من كل ما هو قوت وألوان شتى من الأطعمة و الفاكهة للأناسي، وما هو دواء وعلاج لكل ما قد يبتلى به الإنسان من الأمراض، وما هو غذاء صالح للأنعام، ثم تأمل في انحناءاتها الممتدة بحيث لا تواجهك منها أي حافة في أي من الجهات، وفي نوع دورانها الدائبين حول ذاتها وحول الشمس، ثم عد فعدّد ما يمكن أن تحصيه من ذلك كله، من النعم العجيبة التي تدور على محور الخدمة الدائبة للإنسان، تجد نفسك أمام دنيا أخرى من النعم لا حدّ لها، تجوب داخل دنياك التي أقامك الله فيها.. وحصيلة القول: إذن أن الله تعالى أقام الذي تراه من فوقك ومن تحتك ومن حولك خادماً لك أيها الإنسان، ومن ثم فهو أبلغ مظهر لرحمة الله بك وبالغ تكريمه لك، وحسبك بياناً لهذه الحقيقة هاتان الآياتان من كتاب الله عز وجل: أولاهما قول الله تعالى: ”وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهاَ إِنَّ الإنسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ”(إبراهيم) والأخرى قوله تعالى: ”ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثيرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”(الاسراء). فما الذي ينتابك عندما تتأمل في كل هذه النعم والرحمات التي تفد إليك من الله عز وجل هابطة إليك من علياء سمائه وصاعدة إليك من طوايا أرضه، أو مغروسة داخل كيانك؟ إن الذي ينتابك عندئذ، هو شعور غامر بأن الإنسان لن يفاجئه من الله إذا رحل إليه ووقف بين يديه يوم القيامة إلا الإكرام الوفير والإحسان الجزيل، إذ تلك هي سيرته في عباده وهذا هو نموذج شأنه معهم في دار الدنيا، ولا ريب أنه سيكون أكثر رحمة بهم وأكثر تفضلاً عليهم في الحياة الآخرة.. أي أنَّ التأمل في نعم الله عز وجل لابدَّ أن يزهر الرجاء بصفح الله وعفوه عن عباده الذين هذا هو شأنه اليوم في رعايته لهم وكلاءته إياهم.. فأمَّا إن توجهت لتشهد ما يفد منك إلى الله عز وجل، وتأملت ملياً في ذلك، فلسوف تجد ما يخجل. تجد نفسك من الذين أوغلوا وراء شهواتهم وأهوائهم وركنوا إلى العاجل من دنياهم..أين أنت من قول الله تعالى: ”وَلَوْ يؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِها مِنْ دابَّةٍ ولَكِنْ يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَإِذا جاءَ أجَلُهُمْ فإنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً”(فاطر) وإن النهج القرآني يأخذنا إلى إخضاع النفس إلى مزيج من هذين النظرتين دائماً، فنعيش بين جاذبين متكافئين من الأمل بصفح الله وعفوه والخوف من عقاب الله وسطوته. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي