”اللهُ يجتَبٍي إِليه من يشاءُ ويَهدِي إليهِ منْ يُنيبُ”(الشورى) يقول ابن عطاء الله السكندري: ”علم أن العباد يتشوفون إلى ظهور سر العناية، فقال: ”يختص برحمته من يشاء”(البقرة) وعلم أنه لو لخلاهم وذلك لتركوا العمل اعتماداً على الأزل، فقال: ”إن رحمة الله قريب من المحسنين”(الأعراف). إن عناية الله في شق منها كما قد علمت مكرمة مباحة للجميع -فكل مولود يولد على الفطرة- لا تتوقف على جهد من العمل ولا يشترط لنيلها التزام بشيء، ومن شأن ذلك أن يغري الناس كلهم بالتعرض لها والتشوف إليها. فكان من حكمة الله أن قطع آمالهم من أن تكون عناية الله حقاً مشتركاً للجميع، ومنحة عامة يتكافأ في نيلها كل الناس، فقال:”يختصُ برحمتِهِ من يَشاءُ”(البقرة). ولكن هذا من شأنه أن يحملهم على أن يعتقدوا أن العمل إذن لا يجدي، وإنما هي حظوظ، ينالها من اختصهم الله برحمته، ولابدّ أن يركنوا عندئذ إلى التواكل والكسل في انتظار الحظوظ ومعرفة أصحابها الذين ميزهم الله عن غيرهم بعناية من الأزل، فقال لهم:”إن رحمة الله قريب من المحسنينَ”(الأعراف)يدفعهم بذلك إلى الإحسان في العمل، وعدم الاعتماد على ما يكشف قضاء الله في حق عباده في الأزل. إن هناك قدراً مشتركاً من العناية الربانية، أسداه الله إلى عباده جميعاً..ثم إن الناس يتفاوتون بعد ذلك فيما قد ينالهم من عناية وألطاف إضافية من الله عز وجل تتمثل في مظاهر وخصائص شتى.. فعلى أي أساس يتم هذا الإكرام الثاني، بل هذه الدرجات المتفاوتة من العناية الربانية؟ أجاب عن هذا السؤال بيان الله الآتي:”اللهُ يجتَبٍي إِليه من يشاءُ ويَهدِي إليهِ منْ يُنيبُ”(الشورى). إذن فهما نوعان اجتباء وهداية. فأما الاجتباء فهو خصيصة يختص بها الله من شاء من عباده، ابتداء ودون حاجة إلى أي تسبب لذلك من العبد، ولعله المراد من قوله تعالى:”يختص برحمته من يشاءُ”(البقرة).. والحق، أني لا أعلم لهذا الاجتباء سبباً إلا مشيئة الله كما قال، فلا مطمع في الحصول عليه عن طريق الطاعات أو القربات، وإنما هو لطف خاص من الله به، قضاه في حقه في الأزل. وأما الهداية فمنوطة بأسبابها، من صدق التوجه إلى الله بالتوبة والثبات عليها، والدوام على ذكره، والابتعاد عن كل ما نهى عنه، والانضباط بكل ما أمر به، وتلك هي الإنابة التي جعل البيان الإلهي الهداية منوطة بها وثمرة لها. ولعل الهداية هي المعنية بقوله سبحانه:”إنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ مِنَ المُحسنينَ”(الأعراف). فالآية الأولى التي أوردها ابن عطاء الله في حكمته، تعني المجتبين، والثانية تعني المهديين. ولكن أي فرق بينهما، ما دام كل من الاجتباء والهداية يرجع في سببه إلى عناية الله بالإنسان من الأزل؟ والجواب أن الفرق جلي وكبير، فإن المجتبين من عباد الله، يجذبهم الله إليه ويكرمهم بالعرفان العقلي والاستقامة السلوكية وسعادة العاجلة والعقبى، دون أن يتوقف ذلك منهم على شرط ينفذونه أو خطوة يبدؤونها، وأما الذين أدركتهم نعمة الهداية، فهي متوقفة على أن يسلكوا مسالكها ويؤدوا شروطها ، ثم إن هذا الفريق الثاني يلتقي مع الفريق الأول في أن توجه الإنسان إلى سبيل الإنابة إلى الله، والمجاهدة التي لابدَّ منها للنفس والهوى إنما يتم ذلك كله بتوفيق الله، وتوفيقه له من أجل ثمار العناية الأزلية به. على أنه لا مناص لكلا الفريقين من إلزاهم بالانضباط بأوامر الله والابتعاد عن نواهيه، إذ لو تُرك الناس جميعاً لقرار العناية الإلهية بعباده في الأزل، إذن لتركوا العمل ولتحللوا من ربقة التكاليف..ولو فعلوا ذلك إذن لشاع الفساد في الأرض، ولعاد الإنسان شؤماً في حياته على أخيه الإنسان..لأن الالتزام بأحكامه مصدر من مصادر رحمته بهم.. وإن الذين جنحوا إلى العتو والاستكبار ونكسوا فطرة الله -التي قلنا أنها مصدر العناية الشاملة في الحكمة السابقة -هم الذين قضوا على أنفسهم بالحرمان من هذا التكريم، فطردوا من مائدة الألطاف الإلهية وحيل بينهم وبين العناية الربانبة بقرار طوعى منهم، وبتنفيذ من العدالة الإلهية المطلقة.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي