يقول بن عطاء الله السكندري: “إذا فتح لك وِجْهةً من التعرف فلا تبال معها أن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرَّفَ إليك. ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك و الأعمال أنت مهديها إليه وأين ما تهديه إليه مما يهديه إليك“. يمكن للإنسان أن يخرج من وهدة الضياع والضلال من خلال طريقين لا ثالث لهما: = أحدهما يتجه به الإنسان إلى ربه ،وهو طريق طويل وشاق، يبدؤه الإنسان بغرس حقائق الايمان وأركانه في قلبه، ثم يوجهه إلى محبة الله وتعظيمه والخوف منه، ثم يَقبل أوامر الله فيأتمر بها وينتهي عن المنكرات التي حذر منها، ويستعين على ذلك بالإكثار من ذكر الله والإكثار من تلاوة القرآن. والنتيجة التي ينتهي إليها سالك هذه الطريق هي تضاؤل الدنيا شيئا فشيئا أمام بصره وبصيرته وتعاظم الآخرة، وما فيها شيئا فشيئا في نفسه وفؤاده فيهتم لما هو مقبل. = ثانيها طريق يتجه به الله إلى العبد. فالطريق الأول يكون البدء فيه منك إلى الله. أما هذا الطريق الثاني فيكون البدء فيه من الله إليك، ويسمى طريق الاجتباء.. يكون الانسان مستغرقا في شروده و بعده عن الله، منصرفا الى أهواءه ورغائبه الدنيوية، وفجأة تدركه رحمة من الله تعالى لسبب من الاسباب التي قد لا يعلمها إلا الله، ويتجلى الله عليه تجلي لطف و إيقاظ، فيجذبه إليه، ويسمو به إلى صعيد معرفته فحبه وتعظيمه ،وقد يتم ذلك كله في لحظة واحدة.قال تعالى:{الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}. فالانسان ليس له أي دور في اختيار هذا الطريق، وإنما هو خِصيصَة ٌواصطفاء من الله لمن شاء. والطريق الثاني الذي سماه الله طريق الانابة و الهداية هو الذي أناطه الله بسلوك الناس واختيارهم، وتأتي الهداية في أعقابه ثمرة لجهادهم واجتهادهم. فابن عطاء الله السكندري رحمه الله، يلفت النظر في هذه الحكمة إلى أحد هذين الطريقين، وهو طريق الاجتباء الذي يأتي نتيجة اصطفاء من الله لبعض عباده.. واعلم أن طريق الفتح االرباني غير طريق السير الانساني، فقد يفتح الله لك هذه النافذة دون أن تستعين على ذلك بكثير من العبادات والنوافل والأذكار والقربات كما هو الشأن في العادة، إذ أنه يريد أن يعرفك على ذاته. وقارن في ذلك بين الأعمال التي تريد أن تتقرب بها إليه و التي لا تخلو من الشوائب والحظوظ وبين الألطاف التي تهبط وترد إليك من حضرة الله عز وجل!.. لا شك أن قوة الجذب في الألطاف الإلهية الهابطة إليك أجل وأفعل، من قوة الطاعات الصاعدة منك إلى الله . من هؤلاء في التاريخ الإسلامي، مثلا، الفضيل بن عياض، الذي تحول في بضع دقائق في جوف ليل مظلم من فتاك قاطع طريق إلى متنسك رباني فرغ قلبه من كل شيء إلا من تعظيم الله وحبه والخوف منه.. واعلم أن الاجتباء ليس وقفا على أجيال أو على عصور بعينها بل هو سبيل مفتوح في كل عصر إلى أن تقوم الساعة.. ولكن إياك أن تدعي الاكتفاء بمسلك الاجتباء وتدع العمل مقلِّلاً من الطاعات، لأن المطلوب هو المسلك الأول والثاني اصطفاء (أي مسلك خاص). ...(يتبع) المرحوم الشيخ سعيد رمضا ن البوطي