شكل الخطاب الأخير الذي ألقاه محمود عباس، الرئيس الفلسطيني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، نقطة تحول مهمة في تفكيره، فحتى الأسبوع الماضي أبدى عباس إيمانه الراسخ بضرورة الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل تحت رعاية أميركية حصرية، بل وكان من كبار متزعمي هذه الفكرة. وشدد مرارا على أن هذه المفاوضات هي السبيل الوحيد للتوصل لتسوية سياسية للصراع. وعلى مدار سنوات، أبدى قدرا هائلا من التصالح حيال إسرائيل وطرح تنازلات واحدا تلو الآخر بخصوص كثير من القضايا الجوهرية بهدف استرضائها وإقناعها بإنهاء الاحتلال والعمل معه على إقرار تسوية سياسية، الأمر الذي يسمح نهاية الأمر بقيام الدولة الفلسطينية التي طال انتظارها. إلا أن أيا من تصالحات أو تنازلات عباس تجاه إسرائيل ما أثمرت شيئا. في الواقع، بمرور الوقت مالت إسرائيل نحو اليمين بصورة متزايدة، وتنامى صلفها وعنادها نحو الفلسطينيين. ومع ذلك، توقعت إسرائيل والولاياتالمتحدة أن يستمر عباس في تقبل الأمر الواقع، الذي تغطيه مفاوضات لا طائل من ورائها. من جهته، حرص عباس على الاستمرار في عملية التفاوض لأطول فترة ممكنة، حتى جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة بما حوته من مستوى غير مسبوق من الدمار والقتل، الأمر الذي وضع نهاية لتردده. ولم تترك الضغوط الداخلية التي واجهها سوى خيار واحد أمامه، وهو أن يرى الأمور على حقيقتها، وليس كما يتمناها. وجاء خطاب عباس أمام الأممالمتحدة من بين أفضل الخطب التي ألقاها على الإطلاق منذ توليه الرئاسة منذ 9 سنوات. خلا الخطاب من نبرة الاعتذار أو المراوغة أو التنازل. بدلا من ذلك، تميز الخطاب بطرحه نتائج مباشرة وواضحة وصادقة. وجاءت الرسالة التي حملها في ثناياه واضحة وقوية: إن إسرائيل ترفض حل الدولتين، وترفض إنهاء احتلالها، بجانب رفضها حق الفلسطينيين في إقامة دولة تتمتع بحرية وسيادة حقيقية. وبالتالي، لم تعد هناك جدوى من وراء التفاوض مع إسرائيل، إلا إذا أجريت المحادثات بدعم دولي وبهدف واضح هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال إطار زمني صارم ومحدد سلفا. كما تعهد بطرح قرار بخصوص هذا الأمر على مجلس الأمن، وبالسعي لإقرار العدالة عبر المحافل الدولية. ورغم أن موقف عباس الراهن يعكس رغبة الشعب الفلسطيني، فإن هذا التحول في موقفه لن يحسن بالضرورة الوضع الفلسطيني على الساحة الدولية، حيث تبقى هناك عقبات من شأنها تعقيد التوجه الجديد في السياسة الفلسطينية، والاحتمال الأكبر أنها ستؤدي لفشله. أول هذه التعقيدات انشغال العالم بمواجهة ”داعش”، الأمر الذي بلغ حد الهوس. وهيمنت هذه القضية على أجندة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تترك سوى مساحة ضئيلة للقضايا الأخرى.أما التعقيد الثاني فيكمن في الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، بغض النظر عما تفعله الأخيرة. ويوفر هذا الدعم لإسرائيل مظلة حماية دولية. وتشعر إسرائيل بالطمأنينة تجاه حقيقة أن أميركا ستجهض أي محاولة فلسطينية لتمرير قرار بمجلس الأمن يدعو لإقرار إطار زمني لإنهاء الاحتلال. كما تشعر بالارتياح إزاء حقيقة أن واشنطن ستعاقب الفلسطينيين على مجرد التفكير في هذا الخيار. وليس أدل على ذلك من استجابة الولاياتالمتحدة الفظة لخطاب عباس، حيث قالت متحدثة رسمية باسم وزارة الخارجية إنه تضمن ”عبارات استفزازية” و”توصيفات مسيئة أحبطتنا للغاية ونعلن رفضنا لها”. وبطبيعة الحال لم يذكر الأميركيون ما هي البدائل التي ستتبعها واشنطن، ولا ما تنتظره من الجانب الفلسطيني، بخلاف البقاء مسجونين داخل عملية تفاوض ترعاها أميركا وتسيطر عليها إسرائيل، مما يؤدي فعليا لتعزيز الاحتلال الإسرائيلي. وطالما استمرت الولاياتالمتحدة في تأييدها الأعمى لإسرائيل، ستواجه جميع المحاولات الفلسطينية لاختبار بدائل أخرى داخل المحافل الدولية برفض أميركي وضغوط تغلق مزيدا من الأبواب أمام الفلسطينيين. أما العقبة الثالثة والأهم فهي تردد عباس حتى الآن إزاء اتخاذ الإجراءات التي ينوي اتخاذها حال استمرار العناد الإسرائيلي والأميركي. إن الشكوى من الوضع القائم وحدها لن تجدي شيئا، وإنما ينبغي أن يرافقها خطوات لتغيير الوضع. ويجب أن يقتنع المجتمع الدولي بضرورة التحرك لما وراء إدارة الصراع نحو تسويته. ولن يحدث ذلك إلا إذا خشيت إسرائيل وأميركا من تردي الوضع داخل فلسطين وإسرائيل، ولن يحدث ذلك بدوره إلا إذا أعلن عباس عزمه حل السلطة الفلسطينية إذا لم يحدد إطار زمني معين لإنهاء الاحتلال. في ظل الوضع الراهن، تضطلع السلطة الفلسطينية بدور يريح إسرائيل، حيث تسهم السلطة في أمن إسرائيل من خلال ”التعاون الأمني”، بينما يتم إعفاء الإسرائيليين من تحمل مسؤوليتهم حيال الاحتلال الذي يمارسونه ويتجنبون دفع فواتيره. وحتى يتخذ عباس خطوة ملموسة باتجاه حل السلطة الفلسطينية، لن يتعامل معه المجتمع الدولي، خاصة إسرائيل وأميركا، بجدية وستبقى مطالبه مجرد شكاوى لا أكثر. إن تغيير مصير فلسطين بحاجة لما هو أكثر من مجرد خطاب ناري بالأممالمتحدة.