يصادف اليوم السبت 22 نوفمبر (تشرين الثاني) عيد الاستقلال في لبنان، لكن من حق اللبنانيين أن يصرخوا و”بأية حال عدت يا عيد”، قياسا بالأوضاع المتردية في البلاد، ولأن رئيس الحكومة تمام سلام كان قد أعلن أنه لا احتفالات بعيد الاستقلال هذه السنة كي لا يتولّد أي انطباع خاطئ أن الجمهورية قائمة بكل مؤسساتها وأنها تحتفل بالعيد الوطني، بينما هي تفتقد في الواقع رئيسا للجمهورية يتولى المسؤولية رأسا للدولة وحارسا للدستور، ويجلس كالعادة متوسطا الحضور الرسمي والدبلوماسي في العرض العسكري الذي يقام في المناسبة. سلام رفض أن يرأس الاحتفال نيابة عن الرئيس الذي لم يتم انتخابه منذ 6 أشهر وفي الجلسة رقم 15 التي عقدت يوم الأربعاء الماضي، والتي عطّل نصابها كالعادة إصرار نواب ”حزب الله” وحليفه ”التيار الوطني الحر” على عدم حضور الجلسات، ما أثار هذه المرة تساؤلات محقة من فريق 14 آذار الذي يعلّق بالقول: إذا كان السيد حسن نصر الله قد أعلن أخيرا أن الجنرال ميشال عون هو مرشحه للرئاسة فالأحرى به وبعون النزول إلى البرلمان لانتخاب رئيس جديد تلبية للواجب الدستوري ومضمون التكليف العام، لكن الإصرار على تعطيل النصاب إلى أن يرضخ الجميع لمعادلة عون ”أنا أو لا أحد”، هو الذي يعطّل الانتخاب ويبقي البلد بلا رأس، وهكذا كان من الطبيعي رفض تمام سلام أن يضع في سجله أنه قبل ترؤس احتفالات الاستقلال نيابة عن رئيس الجمهورية، وقرر الاستعاضة عن الاحتفالات بوضع أكاليل على أضرحة قادة الاستقلال ولكن باسم ”الجمهورية” وليس باسم رئيس مجلس الوزراء! الجمهورية، ولكن ماذا بقي من الجمهورية اللبنانية التي تتداعى حجرا بعد حجر ومؤسسة بعد مؤسسة وقانونا بعد قانون؟ المضحك - المبكي أنه في غياب رئيس الجمهورية الذي يتعمدون تعطيل انتخابه للمضي في تعطيل الجمهورية عينها ودستورها، باتت القرارات تتخذ في السلطة التنفيذية على قاعدة الإجماع الذي يمثّل هرطقة كاملة في الحساب الديمقراطي البسيط. ذلك أن الحكومة التي تضم 24 وزيرا وهي السلطة التنفيذية، اقتسمت صلاحيات الرئاسة الشاغرة فكان اللبنانيون بأربعة وعشرين من أصحاب المعالي الوزراء فصاروا الآن بأربعة وعشرين من أصحاب الفخامة، لأن لكل منهم (من غير شر) حق التوقيع المُلزم على أي قرار، وصار القرار الواحد يحتاج إلى 24 توقيعا، وللقارئ الكريم أن يتأمل في أي وقعة أو وقيعة يقع لبنان! في الأساس تراوح الحكومة وسط الانقسام العمودي الذي يضرب البلاد على قاعدة 14 و8 آذار، ولهذا لم يكن مفاجئا مثلا أن تتفجر الخلافات الوزارية على خلفية حسابات حزبية ومناطقية وجهوية بما أدى الأسبوع الماضي إلى تأجيل البت في ملفات ملحة مثل المناقصة لتلزيم شبكتي الهاتف الجوال، ثم في مناقصات تخص وزارتي الداخلية والدفاع رغم حساسية الظروف الأمنية في البلاد. وفي هذا السياق كان فاضحا ومعيبا أن تبدو إلزامية توقيع الوزراء ال24 وكأنها لا تستند إلى الحرص المزعوم على الميثاقية بين اللبنانيين بل على الحصصية الفاسدة وعلى تقاسم المغانم، وهو ما دفع رئيس الحكومة إلى التلميح بأنه لا يستطيع تحمل مسؤولية حروب الأفرقاء السياسيين داخل الحكومة التي يحاصرها ركام كبير من الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية والمطلبية، إضافة إلى التداعيات الخطيرة المتمادية للأزمة السورية على الداخل اللبناني. يتفاقم الاهتراء السياسي الذي يعصف بلبنان مع تفجر ملفات الفساد الذي يضرب في كل القطاعات الاستهلاكية والحياتية تقريبا، لكن قبل الحديث عن هذا الملف الأسود، من الضروري الإشارة إلى أن الاهتمام الخارجي بضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يتعدى الحرص لدى الأفرقاء السياسيين على إنهاء الفراغ في رأس الدولة، وبدا أنه يرتبط بالتحسب من التطورات الإقليمية العاصفة، ولهذا كان لافتا أن يتقاطر سفراء الدول الخمس الكبرى إلى بكركي فور عودة الكاردينال بشارة الراعي من أستراليا. وكان الراعي قد أعلن أنه سيطالب الدول المؤثرة بالمساعدة في حل أزمة الفراغ الرئاسي، في حين تلقت المراجع الرسمية في بيروت رسائل من عواصم دولية تقول إن التطورات في المنطقة قد تطول وتتفاقم بما يفرض الإسراع في انتخاب رئيس جديد، ولكن الإصرار على تعطيل النصاب بات يرسم بعد ستة أشهر من الفراغ الرئاسي، ملامح إصرار على تعطيل الجمهورية ودستورها لدى بعض الذين يمتنعون عن تأمين النصاب البرلماني. وفي أي حال فإن حاجة لبنان إلى التدخلات الدولية لنزع الألغام الإقليمية بما يساعده على انتخاب رئيس جديد، تشكل دليلا على بؤس الوضع الذي وصل إليه، لكن وسط الصراع الإقليمي المحتدم يستمر البعض في ربط الاستحقاقات الداخلية بالخارج لهذا ليس من المؤمل أن تساعدهم التدخلات الدولية على الخروج من المأزق. ما يطغى على الاهتراء السياسي الذي كانت آخر فصوله عملية تمديد النواب لأنفسهم مرة أخرى بعدما أوصلوا البلاد إلى خيار خانق ”إما التمديد أو الوقوع في الفراغ الكامل”، تسونامي الفساد الذي تفجر وتبين أنه يضرب في القطاعات الاستشفائية والاستهلاكية وفي الوزارات والمؤسسات والإدارات العامة. وزير الصحة وائل أبو فاعور يمضي في كشف الغطاء عن أنهر الفساد التي تهدر في القطاعين العام والخاص، ومنذ عشرة أيام يقدم لوائح يومية بأسماء بالمطاعم والمتاجر والمؤسسات التي تبين أنها تبيع مواد ملوثة ومؤذية للصحة العامة، وقد تم إقفال عدد من المسالخ لانعدام شروط النظافة ومعايير الصحة فيها، وفي السياق تبيّن أن معظم المياه التي تبيعها الشركات ملوثة وأن هذه الشركات غير مرخصة، وكذلك جرى إقفال معظم مؤسسات التجميل التي كانت تعمل من دون الحصول على ترخيص يثبت اختصاصها وقدرتها على مزاولة عملها. في لبنان الذي غيبت عنه الدولة منذ زمن وشُلت مؤسساته نتيجة سياسة التعطيل وانتهكت فيه القوانين وحلت فيه سطوة المربعات الأمنية مكان سلطة الدولة، تغوّل الفساد وبات يشكل نوعا من ”الثقافة” العامة، ووسط الاهتراء الكبير في هيبة الدولة والقانون أصبح من الصعب إصلاح الأمور نتيجة جهود صالحة وقرارات جريئة وجيدة يتخذها وزير أو عدة وزراء، فالبلد في حاجة إلى خطة وطنية شاملة للإصلاح والوضع لن يستقيم إلا من خلال إجماع سياسي يبدو مستحيلا في هذه المرحلة.. وفساد عدد كبير من السياسيين والمسؤولين هو الذي يوفر بالنتيجة الغطاء للفساد والفاسدين في كل القطاعات العامة والخاصة.