جرى العرف في الأول من يناير (كانون الثاني) من كل عام على أن تحتفل حاضرة الفاتيكان بيوم السلام العالمي، وفيه يوجه بابا روما رسالة إلى العالم تتناول حديثا يتصل بجذور السلام ومفاهيمه وآلياته حول العالم. هذا العام جاءت رسالة البابا فرنسيس الأول تحت عنوان ”لا عبيد بعد الآن بل إخوة”، وفي مستهلها توجه لكل شعوب العالم ورؤساء الدول والحكام ومسؤولي الأديان المتعددة بأمنياته الحارة بأن يكون العام الجديد مليئا بالسلام، وأن يشهد نهاية للحروب والمنازعات والآلام الكثيرة التي تسببها يد الإنسان. لماذا اختيار هذا الموضوع على هذا النحو؟ شهد تاريخ البشرية فترات كان فيها وضع العبودية مقبولا بصورة عامة ومنظما من قبل القانون. غير أنه في العهود الحديثة وبعد تطور إيجابي لضمير البشرية، باتت العبودية، الجريمة التي تؤذي الإنسانية ملغاة رسميا في العالم.. لكن هل يعني ذلك أنها توارت وإلى الأبد أم أن صورة وأدوات امتلاك الأشخاص قد تغيرت بتغير شكل الأزمنة ذاتها؟ تحدثنا رسالة البابا عن أن ملايين الأشخاص حول العالم حتى الساعة من أطفال ورجال ونساء على اختلاف أعمارهم يحرمون من الحرية ويرغمون على العيش في ظروف مشابهة للعبودية.. هل من أمثلة؟ تذكرنا ”صرخة الفاتيكان” هذه بالعمال والعاملات، بمن فيهم القُصر، المستعبدين في مختلف القطاعات، على المستويين الرسمي وغير الرسمي، في كافة مجالات الأعمال، وفي بلدان لا تتماشى فيها تشريعات العمل مع الإجراءات وأدنى المعايير الدولية. ولعل الثورات والفورات الأخيرة، والتي كان لعالمنا العربي فيها نصيب الأسد، وبخاصة في العراق وسوريا، قد نكأت جرح العبودية، من خلال الظروف المعيشية للكثير من اللاجئين الذين يعانون من الجوع خلال سفرهم المأساوي، ويحرمون من حريتهم ويجردون من ممتلكاتهم ويتعرضون لانتهاكات جسدية وجنسية. لا تتوقف العبودية الحديثة عند أولئك بل تمتد حتى في قلب أوروبا التي تعاني جدلا واسعا حول حقوق المهاجرين غير الشرعيين، وإشكاليات المقاربة بين القوانين المنظمة للدول المضيفة من جهة، وكرامة هؤلاء إنسانيا من ناحية ثانية، أي بين العدل والرحمة. جريمة أخرى تعكس شكل العبودية الحديثة التي تجتاح العالم، إنها جريمة الاتجار بالبشر من أجل استخراج الأعضاء، أو من أجل تجنيدهم في عالم التسول، أو ممارسة نشاطات غير مشروعة من نوعية إنتاج أو بيع المخدرات. أما أحدث أشكال تلك العبودية، فقد رأيناه في أبشع صورة في ممارسات جماعة ”داعش” وأخواتها، من خطف واحتجاز لبشر واستعبادهم لتحقيق غايات جهنمية، أو فيما يتعلق بالفتيات والنساء، اللاتي يستخدمن عبدات لآلهة الجنس المعنية كما كان في زمن الجاهلية. هل تتشابه الأسباب التي تجعل العبودية حاضرا سيئ الذكر في أيامنا الحالية كما كانت في الماضي؟ يرى أسقف روما فرنسيس الأول أن جذور العبودية غالبا ما تكون كامنة في المفهوم الشخصي لكل إنسان، فهناك من ينظر إلى أخيه الإنسان على أنه صنيعة الخالق وجبلته، والبعض الآخر لا يرى في البشر إلا أغراضا، لا ترقى إلى مستوى الكرامة البشرية المتساوية، وعليه فإنه يحق له أن يحرمه من حريته بواسطة الخداع والإكراه الجسدي أو النفسي. يدرك العالم مسحة إنسانية واضحة في شخص بابا الفاتيكان الجديد، القادم من دول ”لاهوت التحرير”، من أميركا اللاتينية، تلك الدول التي عرفت ولا تزال مرارة صراع البروليتاريا المطحونة، في مواجهة حلقات الرأسمالية والكمبرادورية، المنافية والمجافية لأي توجهات إيمانية حقيقية. هنا نجد البابا يؤصل في رسالته لأسباب العبودية الحديثة، فناهيك بالعامل الوجودي المشار إليه سلفا، أي إنكار إنسانية الآخر، يرى أن هناك عوامل أخرى تسهم في تفسير المشهد الأليم، ومن بينها الفقر والتخلف والإقصاء، خصوصا عندما تضاف هذه العوامل إلى الحرمان من التربية، أو إلى واقع مطبوع بقلة أو انعدام فرص العمل. هل الفساد المالي الذي تعاني منه دول العالم شرقا وغربا من بين أسباب العبودية الحديثة؟ ذلك كذلك بالفعل، ففساد الأشخاص المستعدين لكل شيء من أجل الاغتناء عامل رئيسي وراء تزايد نزعة العبودية المستترة وراء الاتجار بالكائنات البشرية، والأشد قسوة في حديث البابا أن بعض عناصر القوى الأمنية أو لاعبين حكوميين آخرين أو مؤسسات مختلفة، مدنية وعسكرية كثيرا ما تقف خلف ما يسميه ”فساد الوسطاء”. ما هي كارثة البشرية الحقيقية في ظل عبودية آثمة؟ باختصار غير مخل أنها تضع في صلب النظام الاقتصادي العالمي المال والأعمال كهدف لا غاية. لقد حدث الارتباك القيمي عندما حلت مسألة تأليه المال، عوضا عن تكريم الإنسان المخلوق كي يكون سيد الكون. رسالة اليوم العالمي للسلام للبابا فرنسيس أكثر من أن نحيط بها في عدة سطور، وتحتاج لقراءة معمقة، من الدول والمؤسسات والشعوب، إذ هي موجهة للإنسانية برمتها دون تخصيص أو تحديد، من أجل القضاء على آخر صور وأشكال العبودية. إن عولمة اللامبالاة التي ترخي بثقلها اليوم على حياة الكثير من ملايين البشر، تتطلب منا جميعا أن نكون صانعي عولمة التضامن والأخوة القادرة على إعطائهم الرجاء مجددا، وتمكينهم من استعادة السير بشجاعة عبر مشكلات زمننا، والرؤى الجديدة التي يحملها معه، والتي يضعها الله تعالى بين أيدينا.