روسيا ترغب في الانتقام من المعسكر الغربي، والأوروبي منه تحديدا، (لانصياعه لقرارات سيده الأميركي بحسب تفسير الكرملين)، ولكن الروس يرغبون في الانتقام بأسلوب غير تقليدي، ومن الداخل الأوروبي نفسه. منذ فترة ليست بالقليلة، عمدت السياسة الروسية إلى تدعيم جاد وحقيقي لعلاقاتها مع الأحزاب ”المتطرفة” التي تقع في اليمين أو في اليسار.. أحزاب في أقصى اليمين هي أقرب للفاشية، وأحزاب في أقصى اليسار هي أقرب للشيوعية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى توجيهاته الصارمة للفريق السياسي والدبلوماسي لإدارته للتقرب إلى هذه الأحزاب والاستماع إليها والعمل على ”دعمها” الكامل، فها هي الأخبار تتواتر عن تقديم السفير الروسي في برلين ”المشورة الاستراتيجية” لحزب ”البديل لألمانيا”، وهو حزب متشدد جديد. كذلك تواترت الأخبار عن قرض بمبلغ 9.4 مليون يورو قدمه أحد البنوك الروسية الأوروبية المشتركة في موسكو لصالح الحزب الفرنسي اليميني المتطرف المثير للجدل ”الجبهة الوطنية” الذي ترأسته مارلين لوبان التي زارت موسكو للتباحث في ”شؤون سياسية” مع نائب رئيس الوزراء ديمتري روجوزيني. وزار العاصمة الروسية أيضا رئيس حزب الحرية النمساوي هاينز كريستيان ستراخه في زيارة وصفت رسميا بأنها ”لبناء الثقة”. وزار القرم (الجزء الذي انضم لروسيا من أوكرانيا) والعاصمة موسكو رئيس الحزب الإيطالي الانفصالي اليميني المتشدد ”الرابطة الشمالية” ماسيو سالفيني الذي قابل كبار المسؤولين في الإدارة الروسية وكال المديح لسياستهم. كذلك كان حزب يوبيك الذي حل ثالثا وبقوة في الانتخابات الأخيرة وأصبح ثالث أهم حزب في المجر، يحافظ على علاقات وثيقة بالكرملين وبالساسة الأهم في إدارة بوتين، وقد صرح بذلك جابور فونا رئيس الحزب في أكثر من مناسبة، وكذلك الأمر مع حزب ”الفجر الذهبي” في اليونان، وحزب ”السويديين الديمقراطيين” بالسويد. ومن بلجيكا هناك حزب ”فلامس بيلانج”، وهناك حزب ”نوا براويسا” البولندي.. كلهم يصنفون أنفسهم بأنهم ”أصدقاء” روسيا، وكلهم لديهم أعضاء مهمون في البرلمان الأوروبي، بمعنى آخر روسيا لديها ”كتلة” نافذة وفعالة ومؤثرة في قلب بيت صناعة القرار الأوروبي نفسه، وهذا تفسير منطقي للحالة والذهنية التي تمر بها القارة الأوروبية ككل. فاليوم أكثر من خمس البرلمان الأوروبي المنتخب يأتي من تيارات وأحزاب غير تقليدية، ومن الممكن أن يطلق عليها أحزاب متشددة ومتطرفة، رغم أن الخمس لا يشكل على الإطلاق أي نوع من الأغلبية، ولكن من المؤكد أن هذه التيارات والأحزاب باتت مؤثرة على صناعة القرار والجدل الحاصل اليوم في أروقة البرلمان والإعلام في الدول الأوروبية كلها. هناك تفاوت كبير ”لحجم وثقل وتأثير” الصداقة الروسية بحسب البلد الأوروبي نفسه، وهناك أحزاب تستعين بالصديق الروسي لأسباب مالية بحتة، فهي تحتاج للتمويل والروس على استعداد للتلبية، وهناك أحزاب لها علاقة عقائدية بالتوجه الروسي المناسب لها، مثل حزب آتاكا في بلغاريا الذي فاز بأكثر من 5 في المائة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فهي هددت بإسقاط الحكومة لو وافقت على العقوبات بحق روسيا، بل إن الصدى وصل للشارع، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن 22 في المائة من الشعب مع الانضمام للاتحاد الأوروبي الآسيوي الذي يرعاه بوتين، مفضلين إياه على الانضمام للاتحاد الأوروبي، بينما يؤيد 40 في المائة الانضمام للاتحاد الأوروبي. المخاوف الموجودة لدى أحزاب اليمين المتطرفة من هجرات الشرق أوروبيين لبلادهم ونمو العلاقات بين شرق أوروبا وروسيا، من جهة أخرى.. كل ذلك يصب في مصلحة روسيا وفي إيجاد وضع سياسي ”داخل” القارة الأوروبية لصالحها يعيد خلط الأوراق، خصوصا في ظل عدم وجود ممانعة من دخول المال السياسي الروسي على أرض المعركة الانتخابية، فهو كان مقبولا حينما كان المال أميركيا. روسيا لها غاياتها، وهي تقوم باستغلال المناخ الأوروبي المتوتر أفضل استغلال، خصوصا في ظل عدم اكتراث واضح من الإدارة الأميركية الحالية بالهم الأوروبي بشكل عام. الانتخابات والأحزاب المتطرفة باتت إحدى أدوات السياسة الخارجية لبوتين في القارة الأوروبية، ولها غايات وأهداف لا تتفق أبدا مع الأهداف والغايات الأوروبية نفسها، وحتما سيكون هناك ثمن ما لدفع الفاتورة الباهظة!