ضمن أهم القضايا التي شغلت، ولا تزال، المحللين السياسيين الاستراتيجيين المهتمين بالشرق الأوسط في الأسابيع الماضية، جاءت قضية الموافقة الروسية على تزويد طهران بمنظومة صواريخ إس 300 التي تم الاتفاق على شرائها منذ عام 2007 وتعطل تسليمها أكثر من مرة لسبب أو لآخر كان في مقدمتها اعتراض تل أبيب ومن خلفها واشنطن على تلك الصفقة. والشاهد أن الموافقة الروسية الأخيرة تقتضي عدة تساؤلات مهمة وجذرية، في مقدمتها هل المسألة برمتها صفقة تسليح أم الأمر أبعد من ذلك بمراحل، وبما يؤثر على التوازنات الاستراتيجية الدولية بشكل أعمق وأوسع؟ وهل للقرار علاقة ما بالاتفاق المرتقب توقيعه بين طهران ودول الغرب في يونيو (حزيران) المقبل؟ المؤكد أن موسكو تريد أن تستبق دول العالم في فتح قنوات تجارية واقتصادية مع طهران التي سترفع عنها العقوبات، وسيفك الحظر على أرصدتها المجمدة. في هذا السياق تحديدًا تجد روسيا منفذًا مهمًا وحيويًا لها في مواجهة عقوبات الغرب الاقتصادية الموقعة عليها بسبب أزمة أوكرانيا، بل إنها في مسارعتها لإعلان نيات التعاون مع طهران تبعث بإشارة لا تخطئها العين للعواصم الغربية المتغطرسة، التي خفضت المستوى الدبلوماسي لبعثاتها التي ستشارك في احتفالات الروس بالذكرى السبعين على نهاية الحرب العالمية الثانية في 9 مايو (أيار) الحالي، والرسالة هي أننا لا نحتاج إلى أصدقاء جدد فلدينا وفرة من القدامى. بعد آخر لا يقل أهمية وراء الصفقة يتخفى خلف المصالح النفطية لروسيا التي هي من أكبر منتجي النفط ومصدّريه في العالم، وهو بعد مزدوج، يقصد به طهرانوواشنطن في الوقت ذاته. أما عن طهران فهناك صفقة موقعة وقد تكون بالفعل قد دخلت إطار التفعيل بين موسكووطهران، بموجبها تورد الأخيرة 500 ألف برميل يوميا للأولى، في مقابل السلع الغذائية، وفي مقدمتها الحبوب كالقمح، والأخشاب والمعادن، وبعض أنواع الآلات والمعدات، بالإضافة إلى قطع غيار المصانع المعطلة، وهو اتفاق لا ينتهك عقوبات الأممالمتحدة ضد إيران. هنا فإن روسيا تضمن تخزين نفط إيران في أرضها ما يعني ازدياد المخزون النفطي العالمي من النفط، وبالتالي تخفيف الضغط على الأسعار... هل يمكن أن يؤذي الأمر الاقتصادي الروسي المأزوم بالفعل؟ بالقطع وبحسب تقرير لوكالة ”بلومبيرغ” الاقتصادية العالمية فإن سعر البرميل بعد دخول الإنتاج الإيراني إلى الأسواق يمكن أن يهبط إلى حدود 40 دولارا للبرميل، ولهذا فإن بوتين لديه خطط طوارئ مناسبة للحفاظ على السعر عند هذه القيمة. غير أن الرئيس الروسي الذي يواجه حربا باردة جديدة مع الغرب يوجه في الوقت ذاته لطمة شديدة لواشنطن التي تعول على النفط الصخري، فقد بدأ إنتاج هذه الشركات ينخفض بالفعل بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وباتت تلك الشركات النفطية مثقلة بالديون في الولاياتالمتحدة، الأمر الذي يجعل الاستيراد أيسر وأقل تكلفة لمؤسسات الطاقة الأميركية، لكنه يعود بها إلى الحاجة لنفط الشرق الأوسط وبقية العالم.. الأمر الذي تريد الخلاص منه. هل لصفقة الصواريخ تأثير على التوازنات العسكرية في المنطقة؟ مؤكد أن هناك حالة من القلق الشديد في إسرائيل بنوع خاص وإن كان هناك ضبط للنفس في التصريحات من قبل بنيامين نتنياهو، ويبدو أن هناك محاولات تجري في الخفاء لوقف الصفقة من جديد، لا سيما أن الإسرائيليين يهددون سرًا موسكو بتزويد المتمردين في أوكرانيا بأسلحة حديثة، قد تزعج الروس. وفي كل الأحوال فإن بوتين يحاول استباق المستقبل، بمعنى أنه يوثق رباطات وعلاقات بلاده مع إيران، ليجعل منها لاعبًا مركزيًا في الشرق الأوسط، وحتى لا تترك واشنطن بمفردها في ملعب المنطقة، حال تحسنت علاقاتها مع إيران. ومن جهة أخرى تبدو موسكو - بوتين وكأنها تبعث برسالة لواشنطن - أوباما، مفادها ”أنتم تتدخلون في ساحتنا الخلفية، شرق أوروبا، وها نحن نتدخل في ساحتكم الخلفية، الشرق الأوسط”. هل يمكن لهذه الصفقة أن تكون بداية لتشكيل عالم قطبي جديد يمد أذرعه إلى الخليج العربي والشرق الأوسط؟ روسيا التي تواجه بحرب ضروس من الأميركيين باتت تحتمي اليوم في تجمعات مثل دول البريكس ومنظمة شنغهاي، وعليه تبقى احتمالات انضمام إيران لأي من المنظمتين قائمًا، ما يخلق حلفًا آسيويًا سيكون ولا شك خنجرًا في خاصرة الناتو وأميركا تحديدًا في الشرق الأوسط والخليج العربي. هل سيقدر لواشنطن أن تحتضن إيران وأن تقطع على موسكو أحلامها في العودة إلى المياه الدافئة؛ الحلم الروسي من زمن بطرس الأكبر حتى بوتين؟ أفضل جواب نستمع إليه جاء على لسان لين ديفيس من مؤسسة راند الأميركية، وثيقة ولصيقة الصلة بعالم العسكرية والاستخبارات الأميركية، وفيه أن ”الاتفاق النووي مع إيران لن يغير من حقيقة أن النظام الإيراني، وخصوصًا المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، والمؤسسة المحافظة، ينظرون إلى الولاياتالمتحدة باعتبارها مصدرًا رئيسيًا للمجتمع العالمي، قد يطمح الرئيس حسن روحاني وغيره من الإيرانيين البراغماتيين إلى استئناف المزيد من العلاقات الطبيعية مع الولاياتالمتحدة، ولكن تبقى الجمهورية الإسلامية دولة ثورية موجهة من خلال مصالحها لبقاء النظام، والحفاظ على السيادة الإقليمية، من خلال توسيع نفوذها الإقليمي”. هل من خلاصة؟ بلا شك الرابح الأكبر في صفقة النووي الإيراني الإيرانيون وبوتين والآسيويون، والخاسر الأكبر الأميركيون والشرق أوسطيون.