اعتبر الروائي الجزائري إسماعيل يبرير، في هذا الحوار مع ”الفجر”، أن تفاعل المشهد العربي والجزائري متواضع جدا مع الأعمال الأدبية، لذلك فترجمة العمل إلى لغات أخرى مهم جدا لرواج العمل الأدبي. وتطرق يبرير إلى علاقته بالشعر رغم أنه متفرغ للرواية مؤخرا، مضيفا أنه ليس عارا أو عيبا ولا هو مزية لكاتب أن ينتقل من الشعر إلى الرواية. أعلنت منشورات عدن بلندن مؤخرا عن اقتناء حقوق ترجمة رواية ”وصية المعتوه، كتاب الموتى ضد الأحياء”، وستصدر الرواية في ترجمتين باللغتين الإنجليزية والفرنسية، فما الذي تضيفه الترجمة للكاتب؟ أن تكون مترجما يعني أن تكون مقروءا بلغات أخرى، أليس هذا بحدّ ذاته سببا لتفكر في كتابة ما هو أفضل؟ أعتقد أن تفاعل المشهد العربي والجزائري متواضع جدا مع الأعمال الأدبية، إنه مشهد تأسس على الصخب لا على المعرفة، على الإثارة لا على التأمل، وربما يمكن اكتشاف ما تقدمه متى نقل إلى لغة أخرى. بالنسبة لمنشورات عدن فهي إلى جانب منشورات ميم، من اتخذا الإجراءات، وأنا باركت مسعاهما، أتابع الآن الترجمة الأولى إلى اللغة الفرنسية في انتظار أن تستكمل ترجمة اللغة الإنجليزية، ربما يمكن أن يجد أبطالي أفقا أوسع في اللغتين، لكني أصدقك القول لا أعتقد أن الترجمة يمكنها أن تحدث فارقا، فالنص محكوم بأجوائه ولغته الأم وليست كل النصوص على مستوى يجعلها تحتفظ بروحها وسبب جودتها في لغات أخرى. بدأت بالشعر وبعدها تحولت إلى الرواية بروايتك الأولى ”ملائكة لافران” وتقريبا هذا هو مسار كل الكتاب، لماذا؟ لم أتحوّل إلى الرواية، لكني أردّد بإصرار أن الشعر هويّتي وانتمائي، كتبت الشعر والسرد قبل سنوات، وكنت طفلا ساردا قبل أن أكون شاعرا، لكنه حالة خاصة لا أكاد أفضي بها للآخرين، الرواية هي حالة واعية أود أن أتشاركها مع الجميع. روايتي الأولى كانت ”باردة كأنثى” لكنها صدرت متأخرة، و”ملائكة لافران” هي ثاني أعمالي وأقلها اتساقا بهمي الكتابي، هي منسجمة مع همي الإنساني والوجداني أكثر. بالنسبة لمسارات الكتاب، أتصور أنه ليس عارا أوعيبا ولا هو مزية لكاتب أن ينتقل من الشعر إلى الرواية. يوجد في العالم ما يكفي من كتاب شعراء ولا يحدث هذا أي خلل في بناء الأدب أو الثقافة، عندنا هناك صدمات كثيرة متوالية من بينها صدمة الرواية، كأن الجميع اكتشف فجأة أن هناك جنس أدبي اسمه الرواية. المفارقة أن الكثير ممن يكتبون الرواية اليوم لا يقرؤونها؟ يمكنك الوقوف على ذلك بالاقتراب من بعضهم، إنهم يكتبون حكايات ويملكون اللغة كأداة، أما فعل الكتابة كوعي فهو أقلّ حضورا في العملية، رغم ذلك لا يحق لنا أن ندين رغبتهم ولا أن نصادر نصوصهم، فالتراكم يحدث الفوارق أكيد. كتبت عن تهميشك والتجاهل الذي لحقك من طرف وزيرة الثقافة خليدة تومي بعد نيلك جائزة الطيب صالح العالمية للرواية، فكيف تتوقع سير الوزارة الوصية بعد توليها من قبل عزالدين ميهوبي؟ لم أكتب عن تهميشي، أنا صرحت في غير مقام ضد مسار ما، ليس لدي أي صدام أومشكل شخصي مع الوزيرة خليدة تومي، على العكس التقيت بها وكانت ودودة وقد خدمت مثقفين من حيث أرادت خدمة الثقافة، هؤلاء الذين خدمتهم لم يقدموا للثقافة الجزائرية الكثير، كنت ولازلت أنظر إلى الثقافة كقطاع نظرة تختلف عن النظرة الإدارية، وأعتقد أن المثقف هو المعني الأول بالثقافة كون الإداري هو العين والمؤطر للفعل الثقافي وليس المؤسس أو المخطط له. عز الدين ميهوبي هو كاتب ومثقف ومتعدد، أعتقد أنه بشهادة إطارات الوزارة أكثر اطلاعا على ملفات الثقافة بالجزائر من سابقيه، ولعله يقدم إضافة، كان من بين أول من احتفى بي سابقا ولاأزال أحفظ له ودا قبل، أثناء وبعد استوزاره. العديد من الكتاب تناولوا العشرية السوداء في رواياتهم كل حسب طرحه. أنت تناولتها من زاويتك في رواية ”باردة كأنثى”، فإلى أي مدى يتأثر الكاتب ببيئته في الكتابة؟ أتصور هذا الطرح قديما أو مبتذلا، ماذا لو قلت لك إن الكاتب يصنع بيئته؟ بالنسبة للعشرية السوداء التي حضرت في روايتي الأولى ”باردة كأنثى” هي حالة وقفت عليها وعاينتها، أنا ذاته الشاب الذي يضيع في الجزائر وأنت معي، والكثيرون من الذين فتحوا وعيهم على فوضى أكتوبر 88 ثمّ لم يجدوا فرصة للحياة إلا ضمن ما يختاره الظرف الوطني، ودعني لا أخوض في مفهوم الظرف الوطني فهناك مآخذ لا تحدّ على السلطة والمعارضة والمثقف والإعلام، الجميع اشترك في نسيان الحياة وانشغل بالبحث عن الوطن الموجود فعلا. الجميع كان يريد أن يثبت أنه على حق دون أن يتوقف قليلا ليقيم وجوده وقيمته، ما الذي حصل بعدها؟ كنا نعيش كحالات معزولة بلا قيم وبلا أمل وبلا رغبات إلى أن انفجرنا ودخلنا دوامة أخرى مكبوتين، الآن البعض يعتقد أن أي وضع مختلف عن واقعنا يعني العودة إلى العشرية السوداء، ألا يكون هذا هو الجنون بعينه؟ ألا تكون بيئتنا مجنونة ما يكفي لارتكاب روايات أكثر نزقا وجنونا؟. أعتقد أن الكتاب يشتغلون أكثر على الذاكرة من اليومي، ولو وضعنا الأزمة الوطنية أو الحرب الأهلية محلّ تقييم فني وأدبي فهي أقل حضورا مما ينبغي، ربما سنرى نصوصا أخرى في السنوات القادمة تقارب العشرية السوداء، وعليك أن تنتبه أن بعض من يكتب اليوم لم يشهد بسبب حداثة سنه العشرية السوداء، تماما كما لم يشهد بعض كتاب السبعينات حرب التحرير. في رواية ”باردة كأنثى” صورت أكتوبر وما حمله من أحداث بنوع من النقد، في حين أنه كفل نوعا من الحرية رغم الخراب الذي تأتى بعده، فلماذا هذه النظرة؟ كلّ هذا في نظر الواعين، أنا أتحدّث عن شخصية لا وعي لها سوى أحلام الطفولة والمراهقة، ولنكن صريحين.. أخشى أننا سنتوقف يوما عن تمجيد الثورة لننخرط في تمجيد أكتوبر 88 وبعدها سيأتي من يمجد العشرية السوداء، هل يجب أن نجد تاريخا مقدسا لنبدأ منه، وليكن ألا يصلح تاريخ اليوم؟ بلا مقدسات وغموض وأسرار.. دعونا نبدأ اليوم. ثمّ إذا كان هناك ما بناه أكتوبر فهو الحلم الذي هوى سريعا، لأجل هذا أعتقد أنه علينا التخلّص من عقدة قداسة التواريخ، حتى تواريخ ميلاد آبائنا وأبنائنا فقد تكون تواريخ مؤلمة للآخرين. نجاحاتك تعددت.. فمن ”باردة كأنثى” التي حققت مبيعات كبيرة، ”وصية المعتوه” كذلك نالت جائزة الطيب صالح العالمية، وحتى في المسرح توجت بجائزة الشارقة للإبداع، فما الذي أضافته لك هذه الجوائز؟ لا شيء غير كلّ ما لم يكن، المشهد الجزائري الذي لا يتشكّل إلا ليتفكّك لا يعترف بك مبدعا إلا وفق شروطه العبثية، مثلا هناك بعض المعتوهين حقا الذين يحتاجون إلى رعاية نفسية وعليك أن تستعد ككاتب أن تحصل على المعاملة ذاتها والترتيب ذاته والحظوة ذاتها لدى المتلقي والاعلام، ومثلا أيضا لا أحد سيهتم بما تقدّم ما لم يكن لك شرعية ما، والأغرب يا صاحبي أنه يمكنك من الفراغ أن تصنع اسما في شهر واحد لتصبح أحد النجوم الفارغة، هذا أسهل ما يكون وفق معرفتي العميقة بالمشهد الثقافي والإعلامي. دعني أشير إلى أن الجوائز لا تصنع البهجة النفسية فقط، إنها تقدّم مقابلا ماليا تضعك تحت الضوء وتبرّر لك الكتابة، خاصة في البداية، حتى جائزة علي معاشي التي لم تسلم من المآخذ لديها أفضالها، ولو تأملنا المتوجين بها سنجد من بينهم أسماء مهمة جدا ولها تصورها المنفرد والمميز للكتابة والإبداع. بعد الجيل القديم من الكتاب الروائيين ظهر جيل جديد من الشباب برزوا بنظرة مختلفة وشكلوا طفرة في الرواية الجزائرية، فكيف ترى هذه الطفرة؟ هناك حركية سردية، يوجد مخاض لتحصل هذه الطفرة، لا يمكن أن نتحدث عن طفرة لأن روائيا أواثنين كسّروا الجمود، لكن هناك تراكم يحدث قد يمنحنا الجميل في قابل الأيام، وأود أن أتوقف عند منطق معاق يتحدّث عن أجيال في مجال لا يحتمله، هل تعتقد أن الكتاب الجدد (سنا) بالضرورة هم الجدد (أدبا)؟ وهل يوجد دراسة واحدة اعتمدت على فرز وتشريح الأعمال الأدبية لتجد أن الأجيال السابقة أقل شأنا من اللاحقة؟. في تصوري أن الأعمال الخالدة هي دائما للسابقين، والأعمال الضاجة هي للاحقين. ولكي نتجاوز بؤسنا الثقافي علينا أن نستعيد قيمنا، ومن بين هذه القيم أن نتعامل مع النصوص لا مع الأسماء، أعتقد أن الكثيرين من الذين التقيتهم من أهل الأدب يعرفون اسمي ويصرون أني من أهم الروائيين الجزائريين اليوم، لكن لا أحد منهم قرا ما أكتب، أليس هذا فخا لي ولهم وللمشهد المترهل أصلا؟ يجب أن نميز بين المحاباة والمجاملة والمجايلة والخدمات الترويجية. ولكي نتحدث عن نصوص وطار بقداسة ينبغي أن نكتب عنها بحرية، ولكي نتفه نصوص أحدهم ينبغي أن نقدّم سببا أو أسبابا، ولنرفض صوتا يجب أن نبرّر الرفض، ولنكون صريحين وواقعيين، علينا أن نعطي لكل ذي حق حقه. أتساءل اليوم لم لا يحتفى بمحمد بن شريف أول روائي في الجزائر؟ هل هو منطق فضاء جغرافي؟ أم لغة؟ أم منطق ولاء لفرنسا؟ أتحدث عن نصه لا عن شخصيته النبيلة إنسانيا إلى أقصى الحدود؟ أجيبك أنا وأتحمل وزر أجوبتي بأن الروائي الجزائري الحالي مشغول بمحو الروائيين الآخرين، إلا من حيث تدوين اسمه سيكون مشغولا بتقديم الآخرين كمرافقين له في حظوة أو تميز، هذا الحكم لا يعمم لكنه الأكثر توفرا بنظري. بما أنك إعلامي فكيف ترى العلاقة بين المثقف والصحفي؟ العلاقة محدودة بسبب جهل الطرفين، المثقف لا يعرف الصحافة والإعلام، لا يفهم أدبياتها ولا واقعها ولا سوسيولوجيا الصحفي، والصحفي لا يفهم المثقف ونرجسيته ويكاد يكون مهووسا بما تكرس من أسماء لا بما يحصل من حدث أو موقف ثقافي. من هنا وجب أن يطلع الاثنين على ما غيبته مراحل تكوين المؤسسة الاجتماعية الجزائرية الحديثة بإعاقاتها العديدة. انشغالك بالرواية أبعدك عن الشعر فهل من مشاريع جديدة في هذا الجنس الأدبي، خصوصا أن بداياتك كانت في الشعر؟ ما أزال أكتب الشعر رغم أني لا أملك القوة لأطوعه ولا الخضوع ليطوعني، أتحين الفرص لذلك، لدي أكثر من عمل شعري لم يصدر، هناك ديوان ”مخالب الجهات” القديم الذي أتأهب لإصداره قريبا، ويوجد حلم داخلي أن أجد وقتا لأتفرغ للكتابة سردا وشعرا وللقراءة، أن أغادر هذه الفوضى الظالمة لي ولزوجتي وأبنائي وأن أستعيدني. لا توجد أزمة نص في الجزائر لا في المسرح ولا في غيره، توجد أزمة قبول، المسرحيون في الجزائر (على فقرهم المعرفي في الغالب) يتأزمون من نصوص الكتاب، وهم لا يملكون رؤية إخراجية بل ترجمة حرفية لتعليمات الكاتب، وما زال أمام مسرحنا الكثير لتحرر من شلليته وضحالته، لا يهمني إن احتفي بنصوصي أم لا، أنا أكتب لأني أتقن هذا الأمر، وأتفاعل مع المسرح لأني تربيت عليه، ولعلي مارست المسرح قبل الكثير ممن يعتقدون امتلاك مفاتيح الركح. حاوره فيصل شيباني
”كنت ولازلت أنظر إلى الثقافة كقطاع نظرة تختلف عن النظرة الإدارية، وأعتقد أن المثقف هو المعني الأول بالثقافة كون الإداري هو العين والمؤطر للفعل الثقافي وليس المؤسس أو المخطط له” ”المثقف لا يعرف الصحافة والإعلام، لا يفهم أدبياتها ولا واقعها ولا سوسيولوجيا الصحفي، والصحفي لا يفهم المثقف ونرجسيته ويكاد يكون مهووسا بما تكرس من أسماء لا بما يحصل من حدث أو موقف ثقافي” ”لكي نتجاوز بؤسنا الثقافي علينا أن نستعيد قيمنا، ومن بين هذه القيم أن نتعامل مع النصوص لا مع الأسماء، أعتقد أن الكثيرين من الذين التقيت بهم من أهل الأدب يعرفون اسمي ويصرون أني من أهم الروائيين الجزائريين اليوم، لكن لا أحد منهم قرأ ما أكتب”