تُبنى الأوطان بالمال والرجال الحاصلين على العلم والتدريب، ولو عدت إلى تنمية اليابان أو كوريا الجنوبية أو الصين أو غيرها من البلدان لوجدت أنها لم تجاوز هذين العاملين. بل إن تعليم الشباب وتدريبهم وتسليحهم بالمهارة كان هو السبب الأول والمباشر قبل المال في تنمية هذه المجتمعات التي لم تكن تملك إلا القليل من الأموال أصلاً. ولعل الجميع يعرف مقولة ”إن هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي”، التي تنسب إلى إمبراطور اليابان حينما سمع صوت أول موتور صنعته أيدي الشاب الياباني العائد من البعثة آنذاك ”تاكو أوساهيرا”. في السعودية نملك -بحمد الله- الكثير من الأموال، ولكننا -للأسف، ولأسباب منها ضعف التعليم، وغياب الرؤية العامة لوجهة الاقتصاد، وعدم إشراك الشباب في صياغة وصناعة السياسات العامة، وغيرها من العوامل- لم نتقدم كثيراً في مجال التنمية الاقتصادية. فما زدنا مع الأيام إلا مزيداً من الاعتماد على النفط الذي راكم البلايين في خزانتنا، ولكن مرت أعوام طفرته سراعاً، من دون أن ننتبه إلى نوعية وكيفية بناء العنصر الإنتاجي الثاني والأهم، وهو العنصر البشري المؤهل. ولا يعني ذلك أننا لا نملك حالياً شباباً مؤهلاً، ولكن بالنسبة والتناسب ليس عددهم بالكبير، وليسوا بالغالبية المطلوبة والمؤثرة والقادرة على إحداث تغيير وتطوير في ثقافة وطريقة العمل، ولاسيما في القطاع الحكومي. ولذا فإن مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز- رحمه الله- للابتعاث كان هو الطريق السريع والصحيح لدعم التنمية بالعنصر البشري الوطني المؤهل، والذي تلقى العلوم في أرقى المدارس والمعاهد والجامعات في الدول المتقدمة، واحتك بأرقى العقول، وشاهد بأم عينيه التطور والحضارة والمدنية التي تعيشها تلك المجتمعات. وما نحتاج إليه اليوم أيضاً هو مشروع وطني آخر على غرار مشروع الابتعاث لإعادة تأهيل خريجي الداخل بما يناسب متطلبات سوق العمل، من خلال برامج تدريب وتأهيل وتطوير مصممة على أعلى وأرقى المستويات لكل الخريجين ولكل التخصصات. فإن كان برنامج الابتعاث يسهم في خفض أعوام منحنى التعلم ويزيد مهارات وخبرات ورؤية المبتعث، فإن برنامج إعادة تأهيل خريجي الداخل لما يناسب متطلبات سوق العمل سيسد فراغاً كبيراً يشغله الأجانب بلا مبرر منطقي مقبول. وسيكون البرنامجان مكملان بعضهما لبعض ويسد كل منهما ما ينقص الآخر. ما نخشاه -وأخشاه شخصياً- ونحن نطالب ببرنامج لإعادة تأهيل خريجي الداخل، أن يوقف فعلاً برنامج الابتعاث الخارجي أو أن يتم تقليل عدد المبتعثين فيه، وهو أمر بدأت بعض بوادره تظهر وإن لم يعلن فيه شيء رسمي. ففي ظل عجز الموازنة المنتظر، فكل ما نخشاه أن يسيطر هاجس الشح المالي على قراراتنا، ويوقف الابتعاث أو تعقَّد شروطه، ويتم التقشف في بنود تدريب وتطوير القوى السعودية العاملة. وهو أمر، إن حصل، سنعود بسببه إلى الوراء أعواماً كثيرة، وسنقضي على بارقة الأمل في التحسين، والتي بدأت بعض بوادرها تظهر مع عودة المبتعثين لتولي المسؤوليات ولاسيما في القطاع الحكومي. وبالتأكيد، ففي ظل عجز الموازنة، فإن التقشف سيكون مقبولاً في الحجر والمباني والجمادات، ولكنه ليس مقبولاً في العنصر البشري لسببين: الأول: أن التنمية تتطلب أن يكون هذا العنصر مؤهلاً ومدرباً وقادراً على التغيير والتطوير. والثاني: أن كل إنفاق على هذا العنصر هو استثمار مجدٍ يعود على الوطن والاقتصاد ومعدلات الإنفاق والنمو بشكل أكبر مما صرف عليه. ختاماً، أعلم أنه لم يعلن أي خفض في الإنفاق على العنصر البشري، ولم يصدر شيء رسمي في ما يتعلق بالابتعاث، إلا أنني أردت التنبيه فقط على عدم المساس بالبنود التي تصرف على تطوير العنصر البشري كما حدث بعد نهاية الطفرة السابقة، وهي غلطة يجدر بنا ألا نكررها مع بوادر نهاية الطفرة الحالية للسبب نفسه.