على خلاف ما تُظهره التحالفات السياسيَّة، من تماسك وتفاهم ضمن عناصر المعسكر السياسي الواحد، إلا أنَّ هذه الدول المُتحالفة مع بعضها، تخوض صراعات أنانيَّة حادّة أحياناً، لا تقلُّ لؤماً عن صراعاتها مع خصومها في المعسكرات المضادّة، على رغم أنَّها تتوضّع في الضفة السياسيَّة نفسها، ولعلَّ التحالف الروسي الإيراني إزاء الأزمة السوريَّة المُشتعلة منذ حوالى أربع سنواتٍ، خير دليل على صحَّة هذا الادّعاء. فبقدر ما يبدو التحالف قويّاً، فإنَّ التنافس الموضعي على استلام زمام المبادرة ومفاتيح الفعل، قويّ أيضاً. فروسياوإيران تعارضان الولاياتالمتحدة في سورية مثلاً، ولكن روسيا قريبة أكثر إلى موقف الولاياتالمتحدة بالنسبة الى الملف النووي الإيراني. انتقال الوجود العسكري الروسي في سورية، والذي كان فعلاً مقتصراً على القاعدة البحريّة في سواحل البحر الأبيض المتوسّط، من المستوى الخفي إلى المستوى المباشر الظاهر، هو إذعان وإشارة على تحول ميداني مرتقب في هذا الوجود العسكري. من المعلوم أنَّ هنالك فاعلين أساسيَّين يدعمان نظام الأسد سياسيّاً وعسكريّاً، وهما الفاعل الدولي الروسي، والفاعل الإقليمي الإيراني. لكن ثَّمةَ فروقاً أساسيَّة سياسيَّة واجتماعيَّة وواقعيَّة حاسمة بين آليَّة تمدُد النفوذين واشتغالهما. فالنفوذ الروسي مُباشر ورسميّ، ويبقى اتّصاله الدائم على مستوى الدولة البيروقراطيَّة وأدواتها المعروفة، كالجيش والأجهزة الأمنيَّة وأدوات العنف الرسميَّة الأخرى التابعة للسلطة. وغالباً ما يكون الدعم علنيّاً ومكشوفاً، يُقال بصراحةٍ في المؤتمرات الصحافيَّة للمسؤولين السياسيين الروس. النفوذ الروسي لا يتدخّل في شكل كبير في حيثيّات الصراع الأهلي بين المكوّنات الأوليَّة، ولا يسيّس الصدوع في النّسيج الأهليّ. في حين أنَّ للنفوذ الإيراني بعداً طائفياً أهلياً عميقاً، هو تفتيتي وتفسيخي وتهشيمي. الجمهوريّة الإسلامية الإيرانيَّة، في كل تجارب نفوذها السياسيّ في المنطقة، تفضل استغلال (وليس اختلاق كما يبالغ البعض، وذلك من أجل رفع المسؤوليَّة عن النظام الرسمي الاستبدادي العربي في تحقيق الاندماج المجتمعي وإخماد المسألة الطائفيَّة) الجيوب الشيعية المشتعلة والمهمشة، والتي تعاني من شعورٍ بالغُبن والطرفيَّة في أصقاع العالم العربي، وتسليحها وعسكرتها وحشدها، وربطها عسكرياً وسياسياً وروحياً مباشرة مع المركز الإيراني الدولتي، كما في حالة ميليشيا ”حزب الله” الشيعية في لبنان، والميليشيات التي يديرها قاسم سليماني في سورية، وميليشيا الحوثي في اليمن، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق. إيران لا تفضل الدعم الرسمي المباشر على مستوى الدولة، بل تهبط إلى قاع المجتمع، في تفعيل دقيق لديناميّات الحرب الأهليَّة، وتأخذ موقفاً من الصراع الأهلي المحتدم بين الجماعات الثابتة، وفي كثيرٍ من الأحيان، كما في ”حزب الله” والحوثيين، تتجاوز قوّة هذه الميليشيات الأهليَّة الطائفيَّة مقدرة القوّات الرسمية للدولة. في النفوذ السياسي الإقليمي الإيراني الكثير من الأهلي والقليل من الدولة، وفي النفوذ السياسي الدولي الروسي، الكثير من الدولة والقليل من الأهلي. النفوذ الروسي هو من ”فوق”، بينما النفوذ الإيراني من ”تحت”. ولعلَّ ما يختصر هذا المشهد صور الجنرالات الروس مع جنود الجيش العربي السوري من جهة، وصور قاسم سليماني وهو يشرب الشاي مع الأهالي في القرى السوريّة من جهة ثانية. أمَّا ما يجعل المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتّحدة، مرتاحاً وغير عابئ بالنفوذ الروسي، بل يجعل واشنطن سعيدة برجحان كفة السيطرة للتمدد الروسي على حساب الإيراني، فهو بالدرجة الأولى أن روسيا ليست دولة ”ممانعة” ولا تمتلك موقفاً معادياً مطلقاً تجاه دولة إسرائيل. ومصلحة إسرائيل عامل حاسم في فهم سلوك القوى الكبرى، على عكس إيران، التي فعلاً تشكل قوّة إقليمية منافسة ومعيقة للتمدد والاستقرار الإسرائيليين، وذلك خلافاً لبعض التحليلات السائدة في الصحافة العربيَّة والقائلة إنَّ الجميع عملاء للجميع، والكل متفق مع الكل. ولأننا كسوريين، لا نمتلك ترف الاختيار في بلدنا، وعلاقتنا بالقرار السياسي السوري الداخلي باتت كعلاقة السائح بالدول الي يزورها، فأعتقد، بسبب الفرق بين آلية اشتغال النفوذ الإيراني والنفوذ الروسي، أنَّ الأخير يبقى أقرب إلى السياسة والحل والتفاوض، كما أنَّ ضرره على النسيج الأهليّ المجتمعيّ أقل وطأة، من النفوذ الإيراني. ولأننا بالضبط، كسوريين، لا نستطيع هذه الأيام سوى أن نختار بين ما هو سيّء وما هو أسوأ، فإنَّ علينا ربّما أن نفرح قليلاً للتمدد الروسي، وهنا جوهر المأساة!