على رغم التعاطف الإنساني مع القضية الفلسطينية، والتفهم لحال مجموعة من الفتية الفلسطينيين الذين وجدوا طريقتهم الخاصة في ”النضال الثوري” ضد الاحتلال الإسرائيلي، لا يمكن الاكتفاء بعين الاندفاع العاطفي والابتهاج بعودة الخطاب القومجي العروبي إلى طاولات النقاش وساحات الإعلام العربي، والاندماج بمجرد التحية والتبجيل لما يحدث على أرض فلسطين والدعاء له بالتصعيد المستمر. فأنظمة كبرى في المنطقة وخارجها اعتاشت على هذا الاندفاع عقوداً طويلة، وتنظيمات سرية وعلنية مولت نفسها باسمه وبذريعته. ولا حرج لدى هؤلاء في التنقل جيئة وذهاباً بين القضية الفلسطينية ومحاربة الإرهاب كيفما رست المصلحة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تلازم المسارين وتطابق العدوين. صحيح أن النيات التي حملها ويحملها الفتية الفلسطينيون إنسانية وطنية وغير أنانية ولو كانت اندفاعية، لكن يصعب علينا الحكم بالمثل على من يحرك هذا المسار إعلامياً أو يغذيه سياسياً أو يشعل فتيله عاطفياً، لينتهي بنا المطاف ترحماً على عشرات الشهداء المباشرين، والمئات أو الآلاف من غير المباشرين الذين يروحون ضحية التصعيد المنتظر. والواضح أن شروطاً سابقة لعبت دورها الأكبر في تغوّل سلطات الاحتلال وزيادة توحشها واستيطانها، وخصوصاً ما كسبه الديموقراطيون من أصوات إسرائيلية داخل الكونغرس لتمرير الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، إنما ليس من دون السكوت عن التصعيد الإسرائيلي المستمر وتوسع الاستيطان الوحشي. وهذا الواقع كان، ولو جزئياً، سبب إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس تعليق التزام السلطة الفلسطينية أي تعاون أمني تلزمها به اتفاقيات أوسلو. ولم تمض أيام قليلة على هذا الإعلان حتى بدأت ”حرب السكاكين”، مبتعدة عن استخدام أي مواد تفجيرية أو أسلحة نارية حذراً من ارتداء ”نمطية” الإرهاب المعتاد عالمياً، وخوفاً من تبني جهات غير محمودة ك ”داعش” مثل هذه العمليات، ملتحفة بلحاف فلسطين المفيد دائماً. إن تقديم هذه الحوادث على أنها فردية وعفوية وغير مرتبطة بجهة منظمة أو مسلحة ك ”حماس” أو سواها، ينزع إلى حد ما الاتهام المسبق بالإرهاب الذي يلحق عادة بهذه التنظيمات، إلا أنه أيضاً لا يكسب السلطة الفلسطينية أي موقع متقدم ولا يدفع بسلطات الاحتلال إلى التنسيق مع السلطة والتقدم نحو التهدئة، اللهم إلا إذا أسفر قادم الأيام عن انبثاق نواة منظمة من ”أبطال السكاكين” تفصح عن نفسها وتحدد مطالبها واستعدادها للتعاون مع السلطة. أما والحال كذلك في الانفلات والعفوية، فالشعب الفلسطيني في تلك المناطق قد يغدو بأكمله هدفاً للاحتلال يستحق الرد بالمثل، وما لم تتغير الأوراق الدولية التي امتلكتها إسرائيل لتأمين تصعيدها المستمر، فهذه التحركات لن تقود إلا إلى الوراء، أي انفلات سيطرة السلطة الفلسطينية وانشغالها بإحصاء خسائرها وشهدائها، واقتناع إسرائيل بأن الأفضل هو الانسياق مع الحرب المفتوحة بالنار والبارود ضد السكاكين. يبقى مربط الفرس تجديد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن، وهو الخيار الذي لا يمكن الوصول إليه عبر تصعيد مفتوح غير محدود وافتراض ساذج بأن المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية محض مسألة داخلية. لكأن هذا الحراك يريد هدم السلطة الإسرائيلية من الداخل، أو كسر سيطرة نتانياهو داخل إسرائيل، فيما المسألة ليست داخلية ولا تساهم في رفع أصوات اليسار ضد اليمين، بل على العكس تعلي صوت اليمين المتطرف على حساب يمين الوسط. أما الولاياتالمتحدة فلن تخرج تصريحاتها عن التهدئة والدعوة إلى الحل السلمي السياسي، أي وضع الرئيس عباس وحكومته في موضع المطالَب بإسكات الحراك الفلسطيني وتجديد الاعتراف بأوسلو، لا من موقع القوي القادر بل من موقع من فقد سيطرته وبالتالي فائدته على الطاولة، داعية إياه لإعادة كسب مكانه إذا أراد الاستمرار.