في نقاش الخيارات الكفاحية للفلسطينيين، وبغضّ النظر عن إشكالياتها الكثيرة، وتأثيراتها المتباينة، وتداعياتها المكلفة، لا بدّ من ملاحظة مجموعة من الاعتبارات، أهمها: أولاً، إن مقاومة الفلسطينيين لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية، وليس الخنوع، هو السلوك الطبيعي المعبّر عن رفضهم لواقع التشرد والظلم والقهر والحرمان من الحقوق والوطن والهوية، ودفاعهم عن حقهم في الوجود والعيش بحرية وكرامة. والمعنى أن وجود اسرائيل على هذا النحو، وضمنه رفضها لأي تسوية، هو سبب المقاومة، إذ إن الفلسطينيين لم يتركوا طريقاً إلا وسلكوه، من المقاومة المسلحة الى الانتفاضة والمقاومة الشعبية وصولاً الى التفاوض، ثم التحوّل نحو طرق أبواب الأممالمتحدة من دون جدوى، وفي ظل خذلان دولي. ثانياً، إن الفلسطينيين هم الضحية، وإسرائيل هي الطرف المستعمر والمعتدي والظالم، الذي يحتكر وسائل القوة والغلبة، أي انه لا تجوز المساواة بين غير متساويين، أو بين المستعمِر والمستعمَر من جهة الحق، ولا حتى من جهة موازين القوى، فشتان بين استخدام الفلسطينيين للحجارة والعصي وسكاكين مطابخ وحتى البنادق، للدفاع عن انفسهم، او لاستعادة حقوقهم، او لرفع كلفة الاحتلال، وبين استخدام إسرائيل الطيران والمدفعية والدبابات وكل الأسلحة المدمّرة لكسر مقاومتهم وتأبيد واقع هيمنتها عليهم ومصادرتها لأرضهم وحقوقهم. ثالثاً، ما يفاقم مشكلات الفلسطينيين في مقاومتهم، انهم لا يواجهون مجرد دولة استعمارية، او جيشها فقط، وإنما يواجهون معها مجتمعاً استعمارياً استيطانياً عنصرياً، تتبنى غالبيته ايديولوجية دينية، تفيد بأن فلسطين هي ”ارض الميعاد” خاصّته، وفي هذه المسألة يتساوى اليهودي العلماني مع اليهودي المتدين، إذ حتى اليهودية ”القومية” تأسست على عنصر الدين والحق الإلهي، ولعل هذا الوضع الخاص هو ما يثير اللبس حول شرعية المقاومة. رابعاً، لم يعد لدى الفلسطينيين ما يقدمونه من اجل التسوية، بعد ان قدمت قيادتهم التنازل الأكبر، عن 77 في المئة من أرضهم، بتبنيها خيار الدولة المستقلة في الضفة وغزة، وحل مشكلة اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية. والمعنى أن إسرائيل هي المسؤولة عن الانفجار الحاصل بإصرارها على استمرار الاحتلال والاستيطان، وسدّها الأفق أمام قيام دولة مستقلة، مع إمعانها بالتحكم بحياة الفلسطينيين وامتهانهم. وعليه لا يمكن، بأي حال، إنكار مشاعر الإحباط والغضب وفقدان الأمل عند الفلسطينيين، بخاصة عند الأجيال الشابة، ولا حقهم في التمرد ومقاومة هذا الواقع بشتى الطرق، وهو ما حصل مؤخراً في الهبّة او الانتفاضة الشعبية. مع ذلك يفترض بنا، في خضم الحماس للهبّة، التذكير بأساسيات أخرى أيضاً، من ضمنها أن المقاومة ليست عملاً فردياً، ولو أنها تتضمن نوعاً من ذلك، وإنها ليست مجرد رد فعل عفوي، مع أن فيها شيئاً من ذلك أيضاً، وإنها لا تقتصر على العنف وإن تضمنت بعضاً منه. والحال، فمع التفهم والتقدير لأعمال المقاومة الفردية بكل أشكالها، والتي لا يمكن ضبطها، والتي هي بمثابة رد فعل شخصي وعفوي على الظلم والامتهان، مع ما تنطوي عليه من شجاعة وتضحية وتوق للتحرر، إلا أنها ليست الحل المرتجى، ولا الشكل الأنسب والأجدى، بل إنها تعبير آخر عن أزمة حركة التحرّر الفلسطينية، بكل مكوناتها، أي عجزها وفواتها وأفولها، والفجوة بينها وبين مجتمعها. ذلك إن الحراكات الفردية وردود الفعل الشعبية العفوية تأتي لتغطية الفراغ، أو للتعويض عنه، وهي تنطوي على مشكلة أخرى تتمثل في افتقادها إستراتجية كفاحية، وغياب كيانية سياسية قادرة على الإدارة والاستثمار في التضحيات والبطولات الحاصلة، وهذه معضلة في غاية الأهمية. أيضاً، يمكن مقاربة ظاهرتَي العنف الفردي - العفوي والعنف السياسي المنظم والموجّه، في تجربة الكفاح الفلسطيني، إذ إن الأول، مع كل التقدير، هو نتاج احتقان اليأس والغضب والفراغ السياسي، في حين أن الثاني تقوده حركات سياسية، وفق إستراتيجية معينة ولغايات معينة، بغض النظر عن مآخذنا على هذه التجربة، كما تجلت في حيّز الممارسة. بيد أن ذلك يفترض منا أن ندرك أن الفصائل الفلسطينية تتحمّل أيضاً المسؤولية عن عدم وضعها النضال العنفي (الفردي أو المنظم) في مكانه المناسب، وعدم إخضاعه للمراجعة والنقد، وعدم صوغها بدائل كفاحية أخرى، تأخذ في اعتبارها إمكانات مجتمعها، وقدرته على التحمل والتناسب مع الظروف الدولية والعربية المحيطة، والقدرة على الاستثمار في إنجازات سياسية. تماماً مثلما تتحمّل المسؤولية عن رفع الكلفة البشرية للكفاح العنفي أو المسلح، بطريقة إدارتها المزاجية والتجريبية له، مع ضعف حساسيتها، من الناحية العملية، قيمة الحياة، وإعلائها قيمة ”التضحية”، بمعزل عن الحسابات النضالية والسياسية الأخرى، علماً أن من أساسيات القيادة حسن إدارة الموارد، ولا سيما البشرية، وتقليل الأكلاف. أما في ما يخصّ فكرة العنف ذاتها، فإن الفصائل تتحمّل المسؤولية عن الارتهان لهذا الشكل من الكفاح وحده، طوال تاريخها، رغم إخفاقاتها، وضعف إمكاناتها، الأمر الذي نجم عنه استبعاد أشكال الكفاح الشعبية، والاستهتار بأهميتها، على رغم أن أفضل تجربة كفاحية وأكثرها جدوى في تجربة الفلسطينيين تمثّلت بالانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993). وبديهي أن ينجم عن حصر المقاومة بمجموعات من المقاتلين، أو المحترفين العسكريين، استبعاد أو تبديد طاقات واسعة من المجتمع، ولعل هذا يتجلّى اليوم في التغطية على الهبّة الشعبية باعتبارها مجرد انتفاضة ”سكاكين”، مع ما في ذلك من مبالغة ومغالطة كبريين. القصد هنا أن المقاومة لها أشكال عديدة، سلمية وعنيفة، وأنها مقاومة مجتمع، وليست مجموعة أفراد، وأن العنف هو مجرد وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، نبيلة وعادلة، سياسياً وأخلاقياً، تستهدف رفع كلفة الاحتلال، وإجبار المستعمر على الرحيل، لأن الحروب واستخدام السلاح والقوة وانتهاج القتل والاستخفاف بحياة البشر من طبائع النظم التسلطية، الاستبدادية والاستعمارية، وما يفترض انه الفرق بين عنف المستعمِر وعنف المستعمَر. طبعاً، لا ينطوي هذا الحديث على مفاضلة بين العنف والسلمية، إذ إن هذا الأمر يخضع للظروف، وللحالات المتعينة وللإمكانات، وللجدوى السياسية، وتحقيق الأهداف بأقل كلفة ممكنة،لأن الحروب والمقاومات تتضمن خسائر باهظة في الأرواح والممتلكات، علماً أن القوى الاستبدادية والمستعمرة هي التي تملك الجيوش، وهي التي تتعمّد استدراج المستعمرين والمظلومين إلى العنف، أي إلى مربعها المريح، ومكمن قوتها، كونه يحرّرها أخلاقياً وسياسياً ويسهل استخدامها آلتها العسكرية لاستنزافهم وإضعافهم وخلق العداوات والفوضى بينهم. هذا يفيد بالتحذير من نزعة تقديس العنف، التي اعتادت عليها الفصائل، وحتى أكثرها قعوداً عن ممارسة الكفاح المسلح، بحيث غدا الاقتراب منه نوعاً من المحرّمات، في حين أن الأمر يستوجب إخضاعه للفحص والمراجعة والمساءلة والمحاسبة والتقييم، باعتباره عملاً سياسياً، مثل أي عمل آخر، لا سيما كما تجلى في التجربة الفلسطينية. والمعنى أن القصة لا تكمن في العنف بحد ذاته، وإنما في اعتماده كعقلية، وليس في استخدامه كوسيلة تقنية وإنما في تقديسه، ووضعه خارج المساءلة، كما في اختزال كفاح المجتمع به. وربما يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن الحديث عن النضال الشعبي والسلمي، لا يعني أنه كذلك مئة في المئة، وهذا ما جرى في جنوب أفريقيا وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى. مع التذكير بأن أكبر تجربة تحرر من الاستعمار في التاريخ، وهي تجربة الهند، تمت بطريقة النضال الشعبي والسلمي (وهذا ينطبق على تجربة الثورة الإيرانية)، بل إن ذلك ينطبق على تجربة التحرّر من الاستعمار في البلدان العربية (باستثناء الجزائر)، مع إدراك ان هذا تم بالتزامن مع التغيرات الدولية، في تراجع مركز الدول الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، والتطورات الاقتصادية، المتمثلة بخاصة بالتحول من الأيدي العاملة والمواد الخام إلى العلوم والتكنولوجيا. المشكلة أن الفلسطينيين لا يملكون ترف المفاضلة بين الخيارات، بحكم ظروفهم الخاصة، وطبيعة عدوهم (جيش ومجتمع) وعدم ملاءمة الأوضاع الدولية والعربية لكفاحهم. فهم ليسوا إزاء تجربة استعمارية على غرار بريطانيا في الهند، ولا إزاء تجربة تشبه الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، حيث كان ثمة وطن أم للمستعمرين، وهي مع شبهها بالتجربة الاستيطانية العنصرية في جنوبي أفريقيا (سابقاً) إلا أنها تختلف لجهة قيام إسرائيل على إيديولوجية دينية، وبفضل جهد دولي، وتمتعها بدعم وضمانة الغرب، لاسيما الولاياتالمتحدة، لأمنها وتفوقها، وهو ما كان يفتقده نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، الذي تعرض للعزل. وباختصار فإن الفلسطينيين يواجهون مجنّدي ومستوطني دولة ومجتمع الاحتلال والاستيطان والعنصرية، وهؤلاء ليسوا ملائكة رحمة، ولا حمامات سلام ولا سياحاً مسالمين، وبديهي أن مقاومة هؤلاء أو مواجهتهم لا تتم بالورود والرياحين، وإلا فكيف جرت حرب الاستقلال والثورة الأميركية؟ وكيف قاومت الشعوب الأوروبية الاحتلال النازي؟ نعم ثمة إشكالات تحيط بكفاح الفلسطينيين، ومسؤوليتهم تكمن في مراجعتها واستنباط الدروس منها، والمفاضلة في ما بينها وفق ظروفهم وإمكانياتهم، لا مجرد تقديسها أو الارتهان لعفويتها، وحبذا لو قام المجتمع الدولي بمسؤولياته ووفّر عليهم كل هذه العذابات والتضحيات، بإنفاذ قراراته، بدلاً من توجيه خطاب لوم الضحية وخطاب المساواة بين المستعمِر والمستعمَر.