محير حقا أمر أمريكا وحلفائها في الأزمة السورية، فبينما يقول الناطق باسم الخارجية الأمريكية أن الأسد واهم إن اعتقد أن هناك حلا عسكريا في سوريا، تتقدم كل من تركيا والمملكة العربية السعودية أشواطا في التدخل في الأزمة السورية، حسب ما أكده، صباح أمس، وزير الخارجية التركي الذي قال إنه من المحتمل إطلاق عملية برية تركية سعودية في الأراضي السورية. وقد أرسلت السعودية بالفعل طائرات حرب إلى تركيا استعدادا لهذا التدخل الذي أعلنت عنه المملكة منذ أيام. وفي نفس الوقت تلقت المعارضة السورية المدعمة من أمريكا صواريخ أرض أرض هذا الأسبوع، مثلما أعلنت عنه عناصر تابعة لها. إذا لم تكن هذه الاستعدادات هي استعدادات للحرب فماذا نسميها إذا؟! أم أن الحرب مرفوضة لما يقوم بها الجيش السوري النظامي، ومباركة لما تقوم بها المعارضة؟! تأتي هذه الاستعدادات في الوقت الذي تم فيه اتفاق على هامش اجتماع ميونيخ الأمني على وقف الأعمال القتالية في سوريا، بعدما فشلت محادثات السلام بين الأطراف السورية. وكان دي ميستورا قد علق الجولة الأولى من المفاوضات، لما لاحظ أن الدول الداعمة للمعارضة، ومنها أمريكا، غير جادة في سعيها لحل الأزمة السورية سياسيا. هل هو هروب إلى الأمام من قبل الدول المحرضة على الفوضى في سوريا، وعلى رأسها المملكة التي ما زالت متورطة منذ سنة في اليمن؟ فبعد كل الدمار الذي أحدثته قواتها هناك، ما زالت أزمة ”الشرعية” قائمة في اليمن، وما زال البلد يدفع كل يوم العشرات من القتلى في حرب الأشقاء الأعداء. ”الطير يغني وجناحه يرد عليه” يقول المثل الشعبي الجزائري، كلام ينطبق على التصريحات التي أدلى بها كيري، أمس، الذي قال إن سوريا الموحدة وغير الطائفية لن نراها في ظل وجود الأسد. ويدعم عادل الجبير وزير الخارجية السعودية تصريحات نظيره الأمريكي، في مقابلة له مع صحيفة ألمانية، بأن بشار الأسد لن يحكم سوريا في المستقبل. كلام سمعناه مرارا منذ بداية الأزمة السورية، قاله أمير قطر، وقاله أيضا وزير الخارجية السعودي السابق سعود الفيصل، وقاله فابيوس، وكلهم رحلوا من مناصبهم، وبقي الأسد يقاوم. لكن كلام الجبير هذا يفضح بجد نوايا التحالف الذي تقوده أمريكا بدعوى القتال ضد تنظيم داعش، بينما يستهدف في الحقيقة نظام بشار الأسد، يعد لمواجهة مع القوات الروسية وقوات حزب الله المدعومة من إيران هناك، فلا يعقل أن تقاتل الجيوش السعودية عناصر داعش التي تشاركها نفس العقيدة الدينية. ثم لما يقول كيري ”إن سوريا الموحدة وغير الطائفية لن نراها في ظل وجود الأسد”، ألم تكن سوريا موحدة وينعم أهلها بالاستقرار بعيدا عن النعرات الطائفية التي أظهرتها الحرب؟ ألم تظهر نوايا تقسيم سوريا حسب جغرافيا طائفية مع ”الربيع العربي” الذي دمر البلاد، وفتح البلاد أمام جبهة النصرة وداعش وكل مصطلحات التطرف المرعبة، كما فتحها أمام التدخل الروسي، والميليشيات متعددة الجنسيات التي تقاتل في سوريا؟ كيري ليس مجنونا وليس مصابا بفقدان الذاكرة، لكن تصريحاته المتناقضة مقصودة، والهدف من ورائها إطالة الأزمة السورية سنوات أخرى لاستنزاف القوات الروسية التي ستدخل في حرب مع قوى التحالف هناك من جهة، ومن جهة أخرى لتحقيق دمار شامل للبنية التحتية والجيش السوري، حتى لا تقوم لسوريا عدوة إسرائيل قائمة! حدة حزام **************
في أروقة قاعة المؤتمرات!
جاء السائق متأخرا ذلك السبت، وكان الوقت ليلا، اختار أن يأتي في هذا الوقت بعد أن تخف الحركة حول قاعة المؤتمرات التي ستحتضن في الغد البرلمان بغرفتيه للتصويت على الدستور، وقصد رفقة الرئيس البوابة الخلفية بعد أن ركنا سيارة ”الدي أس” السوداء غير بعيد عن المبنى الذي لا زال الرئيس يحفظه عن ظهر قلب. وبعد أن تبادل السائق بضع كلمت ومصافحة سريعة مع أحد الحراس، أرجع الحارس يده مباشرة بعدها إلى جيبه، بسرعة وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة مودة. نزل الضيف الغريب متدثرا في برنوسه، ودخل إلى المبنى، لأول مرة منذ عودته، ونفس الشيء قام به السائق في الداخل مع بعض الفضوليين الذين جاءوا مسرعين ليستفسروا من يكون هذا الشيخ الأسود، لكن المصافحة إياها فعلت فعلتها وفتحت الأبواب الداخلية. قام الرئيس بجولة قصيرة وسط القاعة التي زينت منصتها بالأعلام الوطنية والأزهار، ووضعت الأرقام على المقاعد، ليعرف كل نائب و”نائبة” مكانهما. كما خصصت المقاعد الخلفية لرجال الصحافة، والمقاعد الأمامية لأعضاء الحكومة. ”كل شيء مرتب على الطريقة نفسها لاحظ الرئيس، فقط أماكن الإعلام لم تكن بهذا الكم في عهدنا. يبدو أنكم أحدثتم ثورة إعلامية حقا”، قالها بابتسامة ساخرا، متوجها بكلامه إلى مرافقه، فقد سمحت له الأيام الماضية التي قضاها في بيت بنادي الصنوبر أن يطلع على مستوى الإعلام الجزائري في عهد التعددية، وتابع هراء بعض الفضائيات التي يبدو أن بعضها تخصص في نشر الشعوذة وتلهية الشعب عن قضاياه الحقيقية وبعضها تخصص في شتم وشيطنة المعارضة، وباستثناء بعض العناوين الجادة وبعض القنوات التي تحاول أن تقدم إعلاما محترفا، أصيب الرئيس بنوع من الإحباط، من هذه التعددية التي أفرغت من معناها، إعلاميا وسياسيا. اختار السائق مقصورة مخصصة للمترجمين في أعلى المبنى، وطلب من الرئيس المكوث هناك، فغدا لن يكونا بحاجة إلى مترجم، لأن كل الأشغال ستتم باللغة العربية، فقط طلب منه ألا يتجول في الأروقة، ويطفئ الإنارة، ويحاول إسدال الستار حتى لا يراه في الغد من بالقاعة، وسيمكنه متابعة الأشغال بكل سهولة، وسيصله الصوت عبر الميكروفون. لكن عليه ألا يتكلم، ولا يبدي حركة، ولا يصرخ إن لم يعجبه ما سيراه غدا. بعد أن وجه السائق هذه التعليمات إلى ضيفه، عاد من جديد إلى بيته على أن يعود باكرا غدا قبل حضور ضيوف الجمهورية، للتصويت على الدستور المعدل. لكن الرئيس لم يلتزم بالتعليمات، وبمجرد أن غادر نجل عمي الطيب المكان، وتوقفت الحركة في الأروقة، وأطفئت أنوار القاعة بعد أن أنهى التقنيون كل ترتيبات الإضاءة والصوت، وتأكد رجال الأمن من عدم وجود أي سلاح أو تفخيخ للمكان، عادوا إلى بيوتهم وركزت الحراسة على المحيط الخارجي فحسب. في هذه الأثناء خرج الرئيس من مخبئه، وراح يتجول في أرجاء القاعة، ومرة أخرى اغرورقت عيناه وهو يقف أمام الراية ثلاثية الألوان، ويمرر أصابعه النحيفة على النجمة والهلال اللذين يتوسطاها، نعم ما زال ملمسها ناعما وهو يمسح وجهه بحريرها، وما زال عطرها هو هو، مثلما أحس ذلك وهو يدخل الحدود الشرقية غداة إعلان الاستقلال، يحمل الراية الوطنية. ارتسمت على وجهه سحابة سوداء، لا أدري إن كان ذلك بسبب تذكر تلك الأيام السوداء من صيف 1962، وما ميزها من صراع بين الأشقاء على الحكم، أو ربما تذكر هذه الراية وهي تغطي جثمانه ذات شتاء من سنة 1978 في قصر الشعب، أين سجي جثمانه ليلقي عليه الجزائريون نظرتهم الأخيرة، وما زالت فوق جثمانه وهو محمول على الدبابة ويعبر شوارع العاصمة تحت صراخ وبكاء الجزائريين حتى وصل إلى مقبرة العالية التي كانت هيئت على عجل لاستقبال الوفود والرؤساء والأمراء الذين جاءوا لوداعه الأخير. إحساس غريب انتاب الرئيس، وهو يسير وسط القاعة مثل أسير ذهابا وإيابا، قبل أن يجرب الجلوس على كرسي خلف المنصة يتوسط الكرسيين المخصصين لرئيسي الغرفتين. ابتسم في سره، ربما لأنه لاحظ أن هذا الكرسي صغير، سحب إلى الخلف، في البداية اعتقد أنه كرسي الرئيس، لكن من هو الرئيس الذي يقبل بالجلوس على كرسي بهذا الحجم؟! تساءل مرة أخرى. الجلوس على أحد الكرسيين نقله بعيدا في غيمة الأفكار المتصارعة في ذهنه، بين لحظات من الفرح، وأخرى من الغضب والحزن، ما زال لم يفهم بعد لماذا يعاد النظر في الدستور، ولماذا يقول بعض الإعلام أن الأمر يتعلق بالجمهورية الثانية، ولماذا لا يطرح الدستور للتصويت عليه من طرف الشعب؟! أسئلة كثيرة، تصارعت طوال الليل في ذهنه المشوش بكل هذه التغييرات التي طرأت على البلاد في غيابه، تلك التغييرات التي حاولت أن تمحو أثره من البلاد، واسمه من ذاكرة الجزائريين، لكن هيهات. وهو في خضم معاركه الداخلية، انتبه لأول مرة لصورة معلقة خلف المنصة، محاطة ببرواز ذهبي جميل، وحيثما اتجه الرئيس لاحقته نظرات من داخل الصورة التي يقف صاحبها أمام العلم الوطني، ما يعني أنها صورة رسمية. ”أحقا هو؟! أحقا هو؟! نعم هو الآن عرفته، لم أعر اهتماما لاسمه يتردد عبر صفحات الصحف”، في البداية اعتقدت أنه ما زال يحتل منصب وزير في الحكومة، ”كيف لم أنتبه لذلك، أنستني كل تلك التقلبات أن أنتبه إليه، إلى وجهه الذي ملأته التجاعيد. نعم هو، ما زال مثلما عهدته، بنظرته الحادة، لكن لماذا غادرت الابتسامة وجهه، لماذا لم يبق ذلك الرجل المرح، لولا نظرته الذكية وشاربه الكث لما عرفته، ألهذه الدرجة تغيرت ملامح الرجل؟”. - يتبع -