اكتشفت الصحفي محمد حسنين هيكل خلال سنواتي الجامعية، لما قرأت له لأول مرة ”خريف الغضب” سنة 1984، سنوات بعد رحيل الرئيس أنور السادات. وكم شدني أسلوبه السهل وثقافة الرجل الواسعة، حيث مكنته المناصب التي تقلدها وقربه من هرم السلطة في عهد جمال عبد الناصر من الاطلاع، ليس فقط على قضايا العالم وثقافات شعوب الأرض، بل أيضا كان شريكا في صنع القرار كصحفي، وككاتب عمود، لما كان رئيس تحرير الأهرام، حيث كانت صحافة العالم وساسته ينتظرون ما يقوله هيكل في عموده ليعرفوا أين ستتجه رياح السلطة وقراراتها في مصر، إذ كان مقاله أنبوب اختبار يقيس ارتدادات المجتمع المصري ومواقف البلدان الأخرى، مما سيتخذ من قرارات ومشاريع في سرايا الحكم في مصر. قرأت كثيرا للرجل الذي كان محظوظا حيث التقى بكل زعماء السياسة والفكر والعلم في العالم، وحاور كبارا مثل مونتغمري، قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ومثل آينشتاين. وتعلمت منه أصول المهنة، وكنت أسعد أيما سعادة كلما اقتنيت كتابا له، بعد ”خريف الغضب” وبعد ”بين الصحافة والسياسة”، الكتاب الذي روى فيه تجربته في السجن وتجربته مع ”دار الأيام” التي اشتغل بها رئيس تحرير مع مالكيها، مصطفى وعلي أمين، قبل أن ينقلب عليهما، لما تم تأميم صحيفة ”أخبار اليوم”، وسجن مصطفى أمين، وصار هو كمسؤول يمنعهما حتى من دخول ما كانا مكتبيهما في السابق. لكنني صدمت في الرجل لما زرت أول مرة مصر، واقتنيت مجموعة من الكتب التي صدرت قبل خلافه مع الرئيس أنور السادات وقبل سجنه، ومنها ”لمصر لا لعبد الناصر”، أين كان يفرد صفحات واسعة للثناء على السادات، صدمت وأنا أقرأ ”حقائق” أخرى، غير تلك التي قالها في ”خريف الغضب” أين صور السادات كخائن يعاني من التهور وانفصام الشخصية. ومن يومها لم أعد أهتم لإصدارات الرجل مثلما كنت في السابق. وحتى كتاباته الصحفية وحواراته فيما بعد، صرت أقرأها بين السطور وأفهم منها أشياء ليست بالضرورة تلك التي يريد قولها، ولم تعد حواراته التلفزيونية، خاصة على ”الجزيرة” تستهويني بعدما عرفت مواقفه المتقلبة وحقائقه المتبدلة حسب الحكام والأوضاع. وحتى في ما سمي بالربيع العربي، جاء موقفه منه متأخرا جدا، حتى وإن كانت نظرته للأوضاع الجديدة صائبة وتحليله منطقي وسليم، إلا أنه لم يقل كلمته في أوانها ولم يحذر بالشكل المطلوب الشعب المصري من هذه المغامرة. ربما استحسنها في البداية لأنها أطاحت بمبارك، لا أدري! لكن مع ذلك يبقى هيكل هرما إعلاميا، مكنته الظروف ومكانة مصر، من أداء مهنته ولا أقول رسالته الإعلامية. كما ساعدته مهنته في صداقة رؤساء العالم وزعمائه، وفي الوصول إلى وزارة الإعلام في عهد عبد الناصر، بل أيضا وزارة الخارجية، فكان شريكا في كل السياسات وكل القرارات. رحم الله الرجل. حدة حزام **************
هكذا صوتوا على الدستور!
وجاءت تلاوة كلمات رؤساء الكتل النيابية، وبعدها قرأ الوزير الأول ملخصا عن التعديلات التي أدخلها الرئيس الحالي على الدستور، قبل أن يعرضها رئيسا غرفتي البرلمان أمام النواب للتصويت أو الامتناع. كانت أشغال مملة وامتدت ساعات من الزمن من غير داع، لكن الرئيس لم يكن يهمه محتوى الوثيقة بقدر ما كان اهتمامه منصبا على هؤلاء النساء والرجال الذين جاءوا هنا لتقرير مصير البلاد. وفي غمرة حيرته استدار إلى نجل عمي الطيب يستفسر منه مجددا ويسأله للمرة الألف: ”ألم تقولوا إن البلاد تعيش عهدا ديمقراطيا غير مسبوق، فلماذا تتركون عرائس الڤراڤوز هذه تقرر مصير الأمة؟ ألا يجدر بكم المطالبة بعرض الدستور على الشعب لإثرائه ومن ثم المصادقة عليه عبر الصناديق في انتخابات شفافة ونزيهة؟”. ”ههه!”، يضحك نجل عمي الطيب من كلام الرجل، الذي يبدو أنه تأثر مما قرأه كل هذه الأيام في بعض الصحف من انتقادات للدستور. ”أضحكتني سيدي الرئيس، نعم هذه ديمقراطية على مقاس المرحلة، نعم كان على الرئيس أن يمرر الدستور للمصادقة عليه عبر الصناديق، فهو يلجأ إلى هذا الإجراء لثالث مرة منذ مجيئه إلى الحكم، لكن في ماذا كانت ستختلف النتيجة، سواء كانت المصادقة عليه هنا في هذه القاعة أو عبر استفتاء شعبي مكلف ومعقد؟ حتما ستكون النتيجة نفسها ويصادق الشعب بنسبة 99,99 بالمائة، مثلما هي نتائج الانتخابات في منطقتنا، التي تسمى عالما ثالثا، أو عالما عربيا أو سمها ما شئت، على الأقل سيجنبنا هذا الإجراء الهرج والمرج. ثم لماذا تسمي نواب الأمة عرائس ڤراڤوز؟ هل لأنهم لا يشبهون الجزائريين الذين عرفتهم أيام حكمك؟ ألا يقول المثل كما تكونوا يولى عليكم، هؤلاء هم عينة من جزائر اليوم، وهم رمز النجاح حاليا الذي يقتدي به الجزائريون. ثم هل التصويت على الدستور والميثاق اللذين وضعتهما سنوات السبعينيات كان ديمقراطيا حقا؟ نعم، جربنا اللعبة الديمقراطية مرة فماذا كانت النتيجة؟ كانت سرطان الإرهاب، والعودة بالمجتمع الجزائري إلى فكر ابن تيمية، وتحول الإسلام الذي كان دين رحمة وحب، إلى تكفير وتحريم وتجريم. ولعلمك أنكم من فتح لبذرة هذه الأفكار المتطرفة لتدخل البلاد وتجد طريقها إلى المدرسة”! ”آه.. خلينا في الدستور”، يرد الرئيس بغضب، ويضيف ”أنا على الأقل فتحت نقاشا واسعا حول هذه الوثيقة وتلك وتحدث الجزائريون بكل حرية، ونقلت وسائل الإعلام كلامهم دون تحريف”. ”صحيح أن النقاش كان واسعا، لكنه لم يخرج من الإيديولوجية التي وضعتها، الاشتراكية وامتلاك العمال لوسائل الإنتاج، لكننا لم نسمع أحدهم انتقد الثورة الزراعية التي كانت خرابا للفلاحة، ولم نسمع أحدهم انتقدكم، مثلما نسمع اليوم ومثلما ننتقد اليوم أداء الحكومة بكل حرية، وأحيانا بوقاحة. اعترف سيدي الرئيس أنكم، لو ما زلتم في الحكم، لكان الكثير من هؤلاء الصحفيين الذين يتجرأون اليوم على انتقاد السلطة والجيش وشخص الرئيس، اختفوا من الوجود أو ملئت بهم السجون. صحيح أننا كنا نعتقد أن هذه هي الديمقراطية المنصوص عليها في تسمية الجمهورية، لكننا بعد التعددية اكتشفنا أن هناك جزائريين يطرحون أفكارا مختلفة، ويقولون كلاما ذا معنى، غير لغة الخشب التي طبعت خطاب الرئيس الذي أتى بعدكم، وخطاب زعماء الأفالان، اكتشفنا أن الجزائر غنية بالرجال والأفكار، وكلما جاء أحدهم إلى التلفزيون أو قصد الصحافة المكتوبة، نصفق لكلامه الجديد على مسامعنا ونقول لماذا لا يكون هذا رئيسا أو وزيرا؟ أين كانت كل هذه الطاقات مختفية؟ لا تقل لي إنها مسؤولية من أتوا بعدكم، فحتى في وقتكم لم نكتشف مثل هؤلاء الرجال والنساء!؟ أعرف أن الجامعة كانت تعج بالطاقات والأفكار البناءة والجميلة ومفتوحة على المستقبل المشرق. أعرف أنكم استثمرتم في الشباب، وأنت شخصيا لم تكن تبتسم وتتكلم بود إلا مع الشباب، لكن لم نر أنكم عينتم أحدا منهم في الحكومة مثلا، لأن المعيار الوحيد وقتكم ليس الكفاءة ولا الوطنية، بل كان الشرعية الثورية حتى وإن كانت مزيفة، وكم اكتشفنا لاحقا زيف هذا المعيار؟!”. يصمت الرئيس طويلا وكأن كلام مرافقه نبهه لأشياء لم يكن يراها لما كان في كرسي الحكم، بل لم ينبهه إليها من كانوا من حوله، هؤلاء الذين كانوا يخافون بطشه، يصفقون له في العلن، ويلعنونه في سرهم. يطلب رئيس مجلس الأمة وثاني شخصية في تسلسل الحكم (رسميا طبعا) من الحضور التصويت على الدستور. وها هو الرئيس يخرج من صمته الحزين بضحكة كاد يسمعها من في القاعة المنشغلون برفع الأيدي، هذه الرياضة الوحيدة التي يحسنها هؤلاء ويأخذون مقابلها الكثير، ضحكة لم يفهم السائق سببها، فيستدير نحو الرئيس مستفسرا، لكن هذا الأخير يعجز عن الكلام ويكتفي برفع سبابته نحو أحدهم، كان يقف وسط الحاضرين يرفع يده عاليا. وبعد جهد ومقاومة لنوبة الضحك قال ”هذا لو اختفى تحت الطاولة لرأوه، فلماذا يجهد نفسه ويزيد شوية من عنده، هل سيحسب صوت واحد أم صوتان، هل هو نائب بمقعدين؟”. اكتفى السائق بالابتسام، متجنبا التعليق على كلام الرئيس، ثم علق قائلا ”المشكلة ليست هنا أبدا، ليس في الوقوف أو الجلوس، وليس في عدد الأصوات المعبرة بنعم والتي تتجاوز نسبة الانتخابات عند الدكتاتوريات العريقة. المشكلة أكثر تعقيدا سيدي الرئيس”! - يتبع -