داعشي عمره عشرون سنة يقتل والدته التي حملته وهنا على وهن، رميا بالرصاص أمام الملأ في الرقة، لأن أمراء الموت والخراب أمروه بتنفيذ هذه الجريمة التي لا وصف لها، حتى لا تتجرأ أم أخرى وتحاول الالتحاق بابنها مثلما فعلت هذه المسكينة، وتترجاه أن يعود إلى البيت حتى لا يقتل في القصف الذي يستهدف المدينة. لكن لم التعجب؟ ألم ينفذ إخوان مدني مزراق وحطاب جرائم مماثلة عندنا؟ ألم يقتل إرهابي إسلامي والده الشرطي وهو قائم في الصلاة بتهمة الانتماء لنظام الطاغوت؟ ماذا عرف هذا (البز) عن الإسلام؟ وماذا فقه في الدين غير أن استهلاك الحشيش والأقراص المهلوسة غير محرم، وغير وجوب إطلاق اللحية، المرتع الأمثل للجراثيم؟ لا يمكن أن أصف هذا المجرم بإنسان الأدغال، لأن إنسان الأدغال لم يقتل أهله ولا غيره من البشر، وما كان يقتل الحيوانات إلا دفاعا عن النفس أو للعيش، لأنه كان جزءا من نظام الطبيعة المتناغم. هذا هو الإنسان الذي تريد داعش أن تعمر به الأرض، ”باقية وتدوم” يقول الشعار الذي رفعه مجرموها، يعني دوام الخراب والتدمير وسفك الدماء. لم يكن هدف القتل بهذه الصورة المريعة فقط لأن والدته طلبت منه العودة إلى البيت وترك الإرهاب حتى لا يقتل، بل مكان قتلها أمام مقر بريد الرقة حيث تعمل المغدورة له معان أخرى، فهو مثل جريمة الإرهابي الذي قتل والدته الشرطية لأنها موظفة عند الطاغوت ولأنها امرأة وتخرج للعمل وكان عليها أن تهب نفسها لجهاد النكاح. أين هم من الحديث ”الجنة تحت أقدام الأمهات”؟ هذا الولد الذي ما زال حليب أمه بين أسنانه مثلما يقول المثل، تدرج في الجريمة، من الجيش الحر، إلى النصرة وينتهي في أحضان داعش، وهو النموذج المثالي للمجرمين الذين خربوا سوريا، ومع ذلك ما زالت فرنسا وأمريكا والدول العربية المدعمة لدمار سوريا تحاول إقناعنا بأن هناك مجرمين معتدلين يقتلون أمهاتهم بالرصاص بدل قطع الرؤوس. من يدري، ربما تدرب على يد الأمريكيين في الأردن وسلمته فرنسا السلاح مثلما تأكد ذلك مؤخرا على أنه اسلامي معتدل يقاتل الجيش اللائكي. أي لعبة قذرة أوقعونا فيها، بل أوقعنا فيها حماة الدين؟! ليس جديدا التبدع في الجريمة، فقد أرونا كيف تؤكل قلوب البشر وكيف يقتل العلماء ويرمى المثليون من السطوح؟ إنها شريعة الإسلام الجديد! ********
في وداع آيت أحمد - 5 - يدوس عقب السيجارة بحذائه، ثم يصعد إلى السيارة بوجه متجهم، وكأنه ندم على العودة، فقد وقع في مأزق لعبة الحكم من جديد. يستدير نحو السائق مغلقا بلهجته الصارمة المعهودة ”أنت تمزي في كانون طافي يا ولدي، لست أنا من سيجيب على هذا السؤال بعد نصف قرن من الأزمة. لماذا تريد إيقاظ الفتنة، ألم تلاحظ أن كل الصحف لم تتطرق أبدا إلى أزمة 1963، فلماذا تطرح أنت الأسئلة، هل أنت مرافقي، أم كلفك أحدهم لاستدراجي للحديث، في اعتقاده أنني سأعترف بأخطاء؟!”. ودون أن يترك لرفيقه فرصة للرد يضيف: ”ثم لماذا لم تطرحوا السؤال على بن بلة طوال سنوات عودته من المنفى.. تدّعون بأن لديكم صحفا مستقلة وحرية تعبير، بينم تتفادون طرح السؤال على من يملك الإجابة؟ الرد على هذا السؤال يستدعي عودتهم جميعا. ثم لماذا لم يسألوا آيت أحمد لما كان حيا، عمن ذبح مواطنين في منطقة القبائل ممن رفضوا الاستجابة لدعوة (الأفافاس) للعصيان المدني؟ وهذا الشاب في إحدى بلديات عين الحمام لا يتجاوز عمره عشرين سنة، كان كاتبا في البلدية، أخرجوه من وراء مكتبه وهو يرتعد كالعصفور، اقتاده اثنان منهما كل من ذراع، اتجهوا به خلف شجيرة وذبحوه مثلما يذبح الخروف يوم العيد؟ ما ذنب هذا المسكين؟ ربما كان عائلا لوالدته وإخوته. ربما لم يسمع حتى عن الأوامر التي صدرت من رجال آيت أحمد؟ ليسوا أفراد الجيش هم من ذبحوه، بل رجالا كلموه بالقبائلية؟ أعرف أنك لا تملك الجواب - يضيف الرئيس - وقد ارتفعت حدة غضبه وهو يروي الواقعة مثلما رواها سكان المنطقة للمحققين في الأحداث”. وماذا جاء في التحقيقات حول الأزمة؟ يسأل السائق. ”جاء في التحقيقات أن عناصر من جبهة القوى الاشتراكية التي لم تكن تنظيما شرعيا، رفعت السلاح في وجه الجزائر التي خرجت لتوها من قرن وربع قرن من الاستعما والدمار، ومن حرب مدمرة أكلت خيرة أبنائها! لكن - يسأل الرئيس من جديد - لماذا تزامنت أزمة حزب آيت أحمد مع العدوان الذي قام به ملك المغرب ضد بلادنا، عندما خرج بجيش مدجج بالسلاح لاحتلال جزء من ترابنا؟ ما علاقة هؤلاء بالملك؟ أنا لا أتهم أحدا، وأنا عائد من دار الحق، لا أكذب ولا أنافق، بل من حقي أيضا طرح السؤال الذي ما زال لم يلق الإجابة منذ أزيد من نصف قرن...”. لكن آيت أحمد مثلما أسلفت ينفي أن يكون رجاله من رفعوا السلاح، بل أرادها معارضة سلمية، يرد السائق. ”سلمية، هه، سلمية، لقد قرأت في صحافتكم المستقلة عن شيء اسمه معارضة سلمية في سوريا، سلمية دمرت بلاد الشام! طريق جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة”. ”هيا! هيا، يضيف الرئيس، لا يمكن أن نقيم محاكمة للرجل وحركته الآن ونحن ذاهبون إلى وداعه الأخير، سيكون لي ما يكفي من الوقت لدحض كل الاتهامات، لأني فهمت من كلامك أن هناك من يريد أن ينصب لي محاكمة - هذا شرع أحمر! - هكذا كانت تسمى محكمة الجنايات في عهد الاستعمار”. ما زالت سيارة ”الدي أس” السوداء تسير ببطء على الطريق السريع المؤدي إلى ولاية تيزي وزو، لكثرة الازدحام وكل هذه السيارات الآتية من ولايات مختلفة لوداع الرجل التاريخي، ترقيمات من كل الولايات. وكان السائقون في كل مرة يستديرون نحو هذه السيارة، وأغلبهم لا يعرف مجدها، هذه السيارة التي كانت تسمى سيارة الرؤساء، لكن أهمية الحدث غطت على جانبهم الفضولي، فكلهم يريد أن يصل بسرعة إلى آث أحمد بآث يحيى، ليتخذ له مكانا قريبا من القبر الذي سيدفن فيه الزعيم؟! النقاش الحاد، وما تبعه من توتر لأعصاب الرجل العائد من الحياة الأخرى، ترك مكانا للصمت وكلاهما تحاشى الآخر للحظات طويلة في هذا الزحام الجنائزي الثقيل. فقط دخان السجائر ملأ الجو داخل السيارة المسدودة النوافذ. وعلى مقربة من مدخل مدينة عين الحمام تعالت أصوات، هتافات وشتائم، ورشق بالحجارة لموكب رسمي، تبين فيما بعد أن مناضلين من الحركة الانفاصلية منعوا الوزير الأول ورئيس المجلس الوطني الشعبي من حضور الجنازة، وأجبروهم على العودة من حيث أتوا. منظر لم يفت الرئيس، الذي أمضى سنوات طويلة في الحكم كوزير للدفاع وكرئيس للجمهورية، فهو يعرف نفاق المسؤولين والمجموعات المحلية التي تلجأ عشية كل زيارة رسمية إلى جملة من الترقيعات وتعبيد الطرقات وزرع الأزهار على جنبات الطريق وطلاء الجدران - فعلق الرئيس بابتسامة ساخرة ”يزينوا حد ما يشوف أحمد” - ويكتشف أن المثل الشعبي هذه المرة في محلة ”حد ما يشوف آيت أحمد”، ثم يستغرق في نوبة ضحك كادت أن تكشف أمره! ويضيف ”المكان هو هو، ما زال مثلما تركته منتصف السبعينيات، ما زالت المباني على بساطتها وكأن الزمن لم يمر من هنا!”. يتشجع السائق ويبدي ملاحظة ليستفز بها الرئيس: ”بل ما زال هو هو مثلما كان عليه سنة 1963 وما بعدها!”. قالها بنبرة انتقاد لكل السياسات التي تعاقبت على البلاد، ولم يستثن منها حتى مرحلة بومدين نفسه. - يتبع -