تفصلنا أيام قليلة عن ذكرى 1 نوفمبر التي اندلعت فيها واحدة من أعظم الثورات في القرن العشرين، وهي ثورة الجزائريين ضد همجية ”المستدمر” الفرنسي. لكن المآسي لم تنته بعد بسبب مخلفات الاحتلال الذي زرع ملايين الألغام في الأراضي الجزائرية، تلك التي راح ضحيتها أزيد من 50 ألف ضحية، بين الوفيات وحالات الجروح والإعاقات الخطيرة. يبدو أن جراح الجزائريين التي سببها لهم المحتل الفرنسي لم تضمد بعد من جوانب عديدة، فمع اقتراب ذكرى اندلاع ثورة أول نوفمبر، تشع صفحات التواصل الاجتماعي بصور الأرشيف التي تؤكد فظاعة ما عاشه المدنيون العزل والمجاهدون من أشكال التعذيب الوحشية وطرق القتل، علما أن القضية الجزائرية في تلك الفترة كانت لا تقل أهمية عن القضية الفلسطينية في الوقت الراهن. أكدت مصادر إعلامية عربية أن خروج الاحتلال الفرنسي من الجزائر عام 1962 لم يكن نهاية المأساة التي دامت لقرن و30 سنة، لأن فرنسا ”الاستدمارية”، مثلما وصفها المفكر الجزائري العالمي مولود قاسم نايت بلقاسم، تركت فيروساتها على الجانبين المادي والمعنوي، فقد قامت بزرع ملايين الألغام التي تنفجر فور المشي عليها أو لمسها، لتبقى قائمة ضحايا الاحتلال مفتوحة إلى يومنا هذا، ليقع مواطنون من ناحية أخرى ضحايا إعاقات خطيرة، حيث قال زعباب حسن، أستاذ التاريخ في جامعة الجزائر أنه ”وفقا لدراسات تاريخية فرنسية، فإن الجيش الفرنسي زرع 11 مليون لغم في الجزائر أثناء حربه ضد جيش التحرير الوطني، أغلبها في المناطق الحدودية الجزائرية مع تونس والمغرب، لمنع وصول الإمدادات للثوار”. كما أشار ذات المختص أنه لا توجد احصائيات دقيقة لعدد ضحايا الألغام، إلا أن عددهم التقريبي خلال 54 سنة بعد الاستقلال يتعدى 50 ألف ضحية، منهم من قتل ومنهم من أصيب بجروح خطيرة بسبب بتر الاعضاء. وقد تأهبت الدولة الجزائرية بدءا من عام 1963 لإزالة الالغام التي زرعتها سلطات الاحتلال، ليزيل الجيش الجزائري قرابة 80 بالمائة من مجموع الألغام. وتواصلت المرحلة الأولى لمدة 25 سنة، ليتم استئناف العملية عام 2004 بعد أن أوقفت بسبب الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد. لتعلن وزارة الدفاع الوطني في بيانات رسمية تنشر بصفة دورية عن تدمير مئات الألغام. ويفوق عددها بعد إزالتها من قبل وحدات الجيش الجزائري المتخصصة على مرحلتين، 8.8 مليون لغم أرضي، ما يعني أنه تمكن من تطهير أغلب المواقع التي كانت عبارة عن حقول ألغام في السابق، حسب بيانات رسمية. صرح ضابط جزائري أنه ”توجد ألغام فقدت فاعليتها بسبب بقائها في باطن الأرض ل 60 عاما تقريبا، بينما توجد غيرها مازالت فعالة، وهي التي زرعت في مناطق جافة”. من جهته قال أحد الخبراء الجزائريين العسكريين إن الألغام المزروعة تنقسم إلى قسمين، منها مضاد للأفراد والجماعات، والتي تم زرعها على الحدود الجزائرية -التونسيةوالجزائرية - المغربية لمنع وصول الإمدادات لقوات جيش التحرير، وتوجد قنابل في شكل أواني وعلب تدعى ”شراك” أوالفخ. كما قامت الطائرات الفرنسية بإلقاء قنابل عنقودية، وهي التي تسببت في أغلب الإصابات، لأنها ألقيت في المناطق الجبلية والريفية. شمس الدين باهي.. شاهد عيان يعتبر المواطن شمس الدين باهي، أحد ضحايا الألغام من مدينة بشار، روى حادثة فقدانه إحدى يديه عام 1970، وكان سنه حينها 11 عاما، حيث قال :”كنت أرعى مواشي جدي، وقد حذرني كبار السن في قرية بوداغ القريبة من الحدود مع المغرب من السير في منطقة واسعة حددها سكان القرية بعلامات هي حجارة ملونة، وأثناء رعي قطيع من الأغنام هرب لي خروف نحو حقل الألغام، وأثناء محاولة الإمساك به انفجر لغم تحت قدم الخروف الذي تفتت جسده، بينما أصابت شظية كبيرة قدمي”، مضيفا ”نُقلت للعلاج على الفور وقرر الأطباء بتر قدمي اليسرى”. علما أن شمس الدين صرح أنه يتلقى إعانة شهرية من الحكومة بسبب إعاقته على خلفية اللغم، كما منحنه السلطات بيتا يقيم فيه. شمس الدين ما هو إلا قطرة من بحر من دماء الجزائريين، الذين تسببت لهم ألغام الاحتلال الفرنسي بعاهات دائمة وخطيرة، وقائمة طويلة من الضحايا الذين حصدتهم الجزائر بعد الاستقلال، وتنذر بخطرها المتواصل. ليكون الوضع دليلا على الانتقام الذي تكنه ”فرنسا الاستدمارية” بعد فشلها أمام الرأي العام العالمي وانتزاع مصداقيتها المزيفة.