لا أعلم بالضبط كم عدد الوكالات السياحية المعتمدة في الجزائر والتي تكلم إليها وزير البيئة وتهيئة الإقليم والسياحة في أكثر من لقاء إعلامي، امتاز بتوقيع اتفاقيات امتياز زرعت بها هذه الوكالات آمالا أكبر من حجمها، ولا نعلم كثيرا عن تلك التي حدثنا عنها وقال إنها ستجلب السياح من كل فج عميق، بل ستخطف من دول الجوار أغلبية الوافدين إليها، ولكنني تعجبت وقد استثارتني عشرات الإعلانات الصغيرة المنتشرة بكثرة في صحافتنا المحلية والوطنية تعلن في الناس أن هلمّوا إلى التجوال والتسيُّح في العالم من المحيط القريب إلى أبعد نقطة يصلها أسطول النقل، وبحثت في أجندة هذه الوكالات عن مناطق في الجزائر لاتزال معشوقة الغرب والشرق على حد سواء فلم أجد لها أثرا يذكر ولم أجد ولو رحلة واحدة. يقولون إن الجزائر هي متحف كبير مفتوح على الطبيعة بكل ما فيها من إرث نفيس تركه أوائلنا الذين أقاموا بنيانا لاتزال قوائمه شاهد صدق على حضارة عظيمة صنعوها للبشرية، ونحتوا الصخر وقد طوَّعوه ليشهد لهم التاريخ، كما يقولون إن الجزائر هي لوحة فتية طبيعية نادرة رسمتها ريشة الخالق القادر المصور الذي جمع فصول الطبيعة كلها عبر جغرافيتها الواحدة في صورة لا توجد في غيرها، وكانت رحال السواح وطلاب العلم لا تشد إلا إليها من محيطها الأقرب إلى امتدادها الأبعد على حد سواء، وقد جنى عليها جمالها وموقعها فتكالب الأعداء عليها من خلال موجات متعاقبة من الاستدمار الذي كان آخره الاحتلال الفرنسي البغيض، ولكن ذلك لم يزد أبناءها إلا إصرارا على حمايتها والموت دونها وإعادة ترميم ذلك الجمال لتعود لموقعها تلك المكانة الطبيعية التي حباها بها الله على العالمين إقليميا ودوليا. قد يكون للعازفين عن السياحة في بلادهم ما يبرر سلوكهم الاستهلاكي الذي لا يحدث مثله في أغلبية دول العالم، وقد يتحمل الجميع وزر الهروب الجماعي للجزائريين إلى فضاءات بعيدة وهم يتساقطون على أبواب كل الحدود كمن يهرب من سجن كبير ضيِّق الزنزانات، ولكن لابد من تحديد من المسؤول أولا، لا شك أن مؤسسات الدولة بمختلف هيئاتها ومرافقها هي المتهم الأول، فإذا كان الشاطئ الجزائري الطويل جدا لم يعد إلا أقل من عشره صالحا للاستجمام عند أقدامه، فالتلوث غير لون الماء بدرجة لم تعد مياهه إلا كبركة راكدة تحركها ريح السموم والعواصف، ولم تعد الرمال كتلك التي عرفناها عندنا في السابق أو يعرفها المقيمون منا على شواطئ الآخرين، إنما تحولت إلى قمامة كبيرة تختلط فيها كل أشكال القبح والتقزز، ولم يعد أمن المتبحِّر إلا مجرد ذكرى وأمل يُرجَى، فاستفزاز الجشعين أدى إلى احتلال كل ذرة رمل يقيمون عليها مظلة وبضع مقاعد إجبارية الكراء، بالإضافة إلى تلويث الجو الأخلاقي من خلال الحركات الشاذة والسلوكات المشينة التي تجعل المواطن السائح بين خيارين أحلاهما مر: إما أن يثور ويدخل في نقاش وربما يرتكب حماقة تجره إلى ما لا يحمد عقباه، وإما أن يترك المكان ويتيه في الطرقات التي زادت تعقيدا بالاكتظاظ والتأزم، إذا كان ذلك حقيقة لم تعد تخفى حتى على رواد المحميات الشاطئية وسكانها، فمن هو جدير بتعليق الناقوس في رقبته؟! نلوم الشباب الذي ركب البحر في أبشع صورة وأخطرها، وأضاف إلى قاموس الأمة مصطلحا مؤلما: الحرفة نحو الشمال، ولكننا نرى وكالات السياحة والأسفار تروِّج للرحيل إلى الخارج، وكان حريا بها أن تكون وسيطا ثقافيا أمينا بين السائح الجزائري سواء كان مواطنا أم مقيما وبين المواقع الثمينة الرائعة الباكية على حالنا وحالها والتي تعيد للزائر التوازن في رؤيته للجزائر كي يحكم عليها برويَّة ويسوق ما رأى إلى مَن حوله، وإذا كنت شخصيا لا أنكر عليها وظيفتها التجارية إلا أن الدولة مسؤولة مسؤولية مباشرة عما يجب أن تقوم به هذه الوكالات من عمل ثقافي هام وترويج ضروري للسياحة في الجزائر، بدل أن تتركها كمكاتب مجانية لدى الدول الأجنبية تسفِّر لها الجزائريين لينفقوا أموالهم هناك ويرتبطوا بثقافات البلدان المزارة أكثر من ارتباطهم ببلدهم الذي لن يكون في هذه الحالة بالنسبة لهم سوى مراقد لا مناص من الإيواء إليها، وقد يبدأ تحَمُّل المسؤولية من إعادة نظر الوزارة المعنية في علاقاتها بشركائها المتعددين، عن طريق تفعيل دور كل طرف ليكون مكملا لدور الطرف الآخر، ابتداء من تهيئة الفضاء السياحي إعدادا شاملا وطبقا للمواصفات العالمية وانتهاء بتوزيع جديد لخارطة الوكلاء السياحيين الحقيقيين وتشجيعهم بكل ما يلزمهم كي لا تستقطبهم إغراءات الخارج، وبذلك وحده يمكن للسيد شريف رحماني أن يفاخر بقطاع هو وجه الجزائر الحقيقي ومدخلها إلى التنمية الشاملة والتطور السريع، وما عداه ليس إلا كلاما يشبه كثيرا وعود هواة السياسة خاصة في المواعيد الانتخابية العابرة ...