قطعت فرنسا أمل القلة من المتفائلين الذين كانوا يعتقدون أن باريس تحذو حذو روما وتعترف بجرائمها في الجزائر أولا وتعتذر ثانيا وتعوض الجزائريين رمزيا ثالثا، عندما أعلنت خارجيتها أن ما قامت به إيطاليا لا يعتبر سابقة ولا مرجعية، وتتمادى في غيها بالقول إن ظروف استدمار فرنسا تختلف عن ظروف استعمار جارتها ! قد يكون ذلك صحيحا ولكن من حيث حجم القتل والتشريد والتهجير الذي سلطته على الجزائريين، وحجم النهب والاغتصاب الذي ألحقته بممتلكاتهم، وحجم الدمار والتخلف الذي فرضته على المجتمع الجزائري، وهي بذلك تصر على تمجيد الفعل المجرم قانونيا وعرفيا وإنسانيا، والذي تؤكد الدراسات الغربية العلمية الشريفة والجادة أنه أكبر وصمة عار في جبين أوروبا والغرب عموما، وهي بذلك تنسجم مع ما قاله القنصل الفرنسي العامل بالجزائر في وقت سابق من نهاية الشهر الماضي من أن الأقدام السوداء الذين خرجوا مع فرنسا بعد استعادة السيادة، من حقهم أن يطالبوا بأملاكهم في الجزائر، وكأنهم كانوا في يوم من الأيام مواطنين شرفاء أصلاء تملكوا تلك الملاك أو اشتروها ولم يخطفوها من أصحابها بعد أن قتلوا بعضهم وشردوا البعض وهجروا البعض الثالث، ولا غرو أن يتناغم السياسيون الفرنسيون الرسميون كلهم فهم ينتمون إلى مدرسة واحدة أصدرت "قانون عار فرنسا" في 23/02/05 الذي يمجد حالة الاستدمار التي نشرت مآسيها في شمال إفريقيا والجزائر بصفة خاصة. لم تدخل إيطاليا ليبيا إلا بعد احتلال فرنسا للجزائر بعشريات من السنين، ولكنها خرجت منها قبل أن يتمكن الجزائريون من اجتثاث الاحتلال الفرنسي الاستيطاني من كامل بلادهم، ولم يصل مستوى القمع الإيطالي ما بلغته وحشية فرنسا ضد الأمة الجزائرية حتى وإن كانت عقيدة الاحتلال واحدة، وقد يكون ذلك من بين ما جعل يمينيي روما العائدون إلى الحكم "يتطهرون" قبل غيرهم، ويتوجهون بالإيطاليين إلى طي صفحة الماضي، ويعيدون بناء علاقاتهم بالليبيين على أساس التعاون النزيه المتكافئ الذي يستفيد منه الشعبان، وتتمتع بثماره أجيال البلدين المتعاقبة، بعيدا عن ضغائن التاريخ ونوازعه، بينما ظل الفرنسيون على استعلائهم الفارغ القديم، مسجونين في رؤى واهية وكأنهم لا يريدون لعلاقاتهم مع جارهم الجنوبي أن تستقيم، لأنهم لم يستوعبوا بعد أنهم أخرِجوا من أرض كذبوا على أنفسهم أنها جزء من إمبراطورية فرنسية، تنافس تلك التي كانت توصف بأنها الفضاء الذي لا تغرب عنه الشمس، وصدقوا كذبتهم ولم يصدقوا الحقيقة التي أعادت بعث الدولة الجزائرية في الخامس من شهر يوليو من عام 1962 بعد طول تغييب. وكان الجزائريون قد استبشروا خيرا باعتذار إيطاليا المتحضر - وإن تأخر- للشقيقة ليبيا على أذى الاحتلال الذي لحقها أثناء الوجود الإيطالي على الأرض الليبية، واعتبروا ذلك الاعتذار بداية لصحوة ضمير تكون هبت على أوروبا وقد دخلت مرحلة من التاريخ تمتاز بكثرة الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى كادت المجموعة الأوروبية تحتكر شعاراتها، بل ذهب الغرب الجديد إلى شن حروب دامية باسمها في مناطق شتى من العالم، لعل أكثرها دموية وإثارة للجدل ما يجري في العراق وأفغانستان في الوقت الراهن. إذا كنت أشرت في كتابات سابقة أن اعتذار فرنسا لن يكون قريبا، نظرا للوضع الشاذ الذي يحكم علاقة الجزائر بباريس، فإنني أدعو هذه المرة إلى حركة تصحيح جزائرية سياسية ثورية فعالة تبدأ من عل وتنتهي بالمستوى الشعبي، لا يتخلف عنها أحد، ولا يحاجج في نجاعتها مريض أو فاشل أو مهزوم أو مستفيد، قد تتخذ مجموعة من المسلك المتشابكة ولكنني أعتقد أن معالمها البارزة - كي تنجح - تمر حتما بالنقاط التالية : - التخلي عن اللغة الفرنسية كأداة عمل مهترئة تم تطويرها وتعميمها مجانا بأموال الجزائريين واستبدالها بلغة العلم الأولى في العالم، وأن يتجند لهذه العملية المقدسة حتى أولئك الذين يعتقدون خطأ أن خبزهم مرتبط بها وهم الذين رفضوا الخروج من أسرها وأن يلعنوا شيطانهم، وقد أثبتت تجربة حكومة السيد أحمد أويحيى في طبعتها الأولى مع نهاية القرن الماضي أن العملية يمكن أن تسير بيسر وسلاسة فقط حينما تتوفر الإرادة السياسية الصادقة من أصحاب القرار بتجنيد أكبر حزب فعال في الجزائر وهو حزب الإدارة، ولازالت المطبوعات التي أعدت لتنفيذ قانون تعميم استعمال اللغة الوطنية شاهدة على إمكانية النجاح في العملية، حتى وإن تم النكوص عنها وارتد الكثير من المؤسسات مجاراة للردة العامة، غير أن الوثائق المكتوبة بياناتها باللغة الوطنية والتي ُتملأ - للأسف في بعض الإدارات باللغة الأجنبية - تعتبر دليلا ماديا على حتمية النجاح لو تجدد صدق العمل. - إعداد شبكة بيداغوجية لتعليم اللغات خاصة تلك التي تنطق بها شعوب دول البحر الأبيض المتوسط، حتى لا تبقى لغة الاستدمار القديم هي أداة احتكار التواصل بيننا وبين ما يقارب العشر بلدان نشترك معهم في شواطئ المتوسط، وسجننا أنفسنا -بعيدا عنهم - في لغة لن تكون أمينة في إحداث التقارب المباشر الذي تفرضه هذه المرحلة الهامة من التاريخ. - رفع اليد عن المؤسسات الفرنسية المفلسة التي أعيدت لها الحياة في الجزائر وتقليص مجال عملها إلى حده الأدنى في مختلف مشاريع الجزائر وإقصاؤها من المناقصات المطروحة دوليا. - إعطاء الأولوية للاستثمار العربي والأجنبي غير الفرنسي حتى يحس الفرنسيون أنهم منبوذون في الجزائر بجرم ما فعلته فرنسا الاستدمارية. - رفض القضاء الجزائري النظر في دعاوى استرجاع الأملاك التي رفعها المستدمرون الذين رحلوا مع فرنسا المرحّلة. إن الجزائريين مهيأون للتعامل مع وضع آخر إزاء فرنسا، فقد خفضوا طلبات التأشيرة إليها إلى أقل من النصف، ما يعني أنها لم تعد الوجهة الوحيدة للراغبين في الخروج من الجزائر للسياحة أو الإقامة أو العمل أو حتى الحركة كما كان يعتقد، وما على المسؤولين عن الشأن الجزائري إلا أن ينسجموا مع الرغبة الشعبية، ويومها ستأتي فرنسا حاملة - بيد -اعترافها بجرائمها وباليد الأخرى اعتذارها، ربما يكون مصحوبا بالتعويض المناسب - رمزيا - عما فقده الجزائريون في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر.