الناس في غزة يشتكون من كل شيء، ولهم الحق في ذلك، فشكواهم ليست شكوى الجاحد بالنعمة ولكنها نابعة من ألم ومعاناة باتت تشكل تفاصيل حياتهم اليومية. لقد عصرت الأزمات وعصفت بأحلام الغزيين، وانخفض معها سقف كلامهم وأمنياتهم وأحاديثهم اليومية، فغالبية السكان هناك تتحدث عن الفقر والبطالة وأزمات الغاز والكهرباء والماء، ويلقون باللائمة على قادتهم وفصائلهم المنقسمين على أنفسهم، لتغليبهم مصالحهم الشخصية والحزبية على المصالح الوطنية والعامة. أزمات غزة لا تنتهي، بفعل الحصار والانقسام، وهي أزمات تعكر حياة الغزيين وتأسر طموحاتهم وأمنياتهم، وتجعلهم أسرى البحث عن لقمة العيش، في ظل الارتفاع غير المسبوق في معدلات الفقر والبطالة، واعتماد غالبية السكان على المساعدات الإغاثية والإنسانية التي تقدمها مؤسسات دولية ومحلية في مقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" التي تتكفل برعاية أكثر من ثلثي السكان من اللاجئين. مخاوف من حرب "إسرائيلية" جديدة ليس هذا كل ما يواجهه الغزيون، في ظل مخاوف من حرب "إسرائيلية" جديدة، استناداً إلى التصعيد العسكري المتنامي في القطاع في الآونة الأخيرة، واستئناف قوات الاحتلال لعمليات التوغل ضد نشطاء فلسطينيين في غزة، إضافة إلى عمليات القصف والتوغل شبه اليومية. ويتزامن التصعيد "الإسرائيلي" مع الذكرى السنوية الثانية للحرب "الإسرائيلية" على غزة، التي شنتها قوات الاحتلال في الفترة ما بين 27 ديسمبر 2008 و18 جانفي 2009 وهي الحرب التي ارتكبت خلالها قوات الاحتلال جرائم بشعة وجرائم ضد الإنسانية خلفت حوالي 1400 شهيد وأكثر من 5 آلاف جريح، ودماراً واسعاً في المنازل السكنية والمنشآت العامة والخاصة. ويبدي سكان غزة مخاوف كبيرة من احتمال أن يتطور التصعيد "الإسرائيلي" الحالي إلى حرب موسعة، في ظل تهديدات يطلقها أركان في دولة الكيان بشن حرب أكثر دموية وشراسة من الحرب السابقة، وهي تهديدات تتزامن مع تحريض متواصل ضد غزة وفصائل المقاومة والتهويل حول ما تمتلكه من سلاح وعتاد. إن غزة لا تحتمل أي حرب جديدة، وهي التي تعاني أوضاعاً مأساوية في كل مناحي الحياة، ونقص كبير في مستلزمات الحياة، من الأدوية إلى غاز الطهي والقمح والكهرباء ومياه الشرب، فضلاً عن توقف مشروعات الإعمار بسبب حظر سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" توريد مواد البناء لقطاع غزة منذ تشديد الحصار عليه إثر سيطرة حركة "حماس" عليه في منتصف جوان 2007. تصعيد إسرائيلي إن الكيان الصهيوني يسعى من خلال استهداف نشطاء في جماعات سلفية صغيرة وآخر ذلك عملية الاغتيال التي طاولت خمسة من نشطاء جماعة "جند أنصار السنة"، ومن قبلها عمليات الاغتيال التي استهدفت نشطاء في تنظيم "جيش الإسلام"، إلى دفع هذه الجماعات لردة فعل تبرر لهذه الدولة المارقة أي هجوم أو عدوان ضد قطاع غزة. ويبدو من التصعيد "الإسرائيلي" الأخير في غزة أنها تسعى إلى صرف أنظار العالم عن صلفها وتمردها على المطالبات الدولية لها بوقف الاستيطان من أجل استئناف المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، إذ إن من شأن أي حرب تسعى إلى تبريرها بوضعها في سياق الحرب الدولية على ما يسمى الإرهاب إلى التخلص من الضغوط الدولية عليها، وتحميلها المسؤولية عن فشل المفاوضات. ورغم ذلك، لا أحد يمكنه أن يتوقع حرباً "إسرائيلية" جديدة على غزة، ولكن في كل الأحوال ينبغي الانتباه لموجة التصعيد العسكري الحالية، فالتركيبة الحكومية الحالية في الكيان الصهيوني برئاسة بنيامين نتنياهو هي أشد تطرفاً ودموية من الحكومة السابقة برئاسة إيهود أولمرت التي قادت الحرب الماضية على غزة، وبالتالي فإن مثل هذه التركيبة المتطرفة التي تضم في عضويتها أحزاباً "إسرائيلية" عنصرية، لا يمكنها العيش والمحافظة على توليفتها من دون تصعيد وخلق عدو ولو كان عدواً وهمياً. تهويد مدينة القدس الخطر لا يحدق بقطاع غزة وحده، إذ إن الكيان الصهيوني الذي يستغل الواقع الفلسطيني المؤلم، والانقسام الداخلي، للاستفراد بالقطاع عبر التصعيد العسكري وتهديدات الحرب، يستغل هذا الواقع نفسه، عبر تسريع وتيرة عمليات البناء الاستيطاني والتهام أراضي الضفة الغربية، واستكمال تهويد مدينة القدسالمحتلة، حتى إذا ما استؤنفت المفاوضات لن يجد المفاوض الفلسطيني ما يفاوض عليه. إذا كانت الأرض التي هي محور التفاوض يتم التهامها يومياً، وضمها إلى المستوطنات، ومصادرتها لمصلحة استكمال بناء جدار الفصل العنصري، فعلى ماذا يمكن أن يفاوض الجانب الفلسطيني . إن القيادة الفلسطينية مطالبة بدراسة جدية وحقيقية لخيارات بديلة عن المفاوضات العبثية مع الكيان الصهيوني، وعدم استمرار الرهان على الإدارة الأمريكية، التي لا تبدو في وارد ممارسة الضغط على الحكومة "الإسرائيلية" المتطرفة، بعدما تراجعت عن مطالبتها لها بوقف أو تجميد الاستيطان، وأصبحت بدلاً من ذلك تبحث في آليات جديدة لاستئناف المفاوضات أو العودة للمفاوضات غير المباشرة. إن اعتراف ثلاث دول في أمريكا اللاتينية بدولة فلسطين المستقلة فوق الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشريف، ورفع دول أخرى التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني، مع وجود إشارات لدول أوروبية عدة برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، يجب أن يشكل دافعاً للقيادة الفلسطينية للبحث في خيارات بديلة عن المفاوضات التي لم تحقق شيئاً من الطموحات الفلسطينية على مدار 19 عاماً. ولعله من نافلة القول إن البحث في خيارات الرد على الصلف والتعنت "الإسرائيليين" يستلزم أن يسبقه بحث فلسطيني فلسطيني لاستعادة أوراق القوة، عبر إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، فالواقع الفلسطيني الحالي يشكل نقطة ضعف كبيرة تستغلها "إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، وتحاول ممارسة الخداع بأن الفلسطينيين غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم.