سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مشواري النضالي بدأ بالعاصمة ومر بفرنسا وألمانيا وختم بسجون الجزائر فباريس أول من رفع الراية الوطنية في المحاكم الفرنسية.. المجاهد مسعود جديد ل"السياسي":
لا يزال حتى اليوم شابا ثائرا بالرغم من بلوغه سن ال 74 سنة، ولا يزال محافظا على نشاطه وحيويته، وكأن الأيام تعود به إلى الوراء لا تمضي إلى الأمام، ولا تزال ذاكرته أيضا تفصل في كل الأحداث الصغيرة منها والكبيرة، مهما طالتها يد الزمن، يتحدث عن الثورة ونضاله وكأنه يسرد عليك قصة دارت فصولها بالأمس القريب فقط. ولد مسعود جديد أو سي علي، بقرية السويدانية التي يعود اسمها إلى المجاهد البطل سويداني بوجمعة، المنحدر من نفس المنطقة، فحملت اسم السودانية، أو كما كانوا يصفونها إبان الثورة التحريرية المباركة "من قرية، في كل منزل، مخبأ"، ينتمي إلى عائلة مجاهدة رجالا ونساء، قدمت العائلة للثورة التحريرية المباركة11 فردا، منهم ستة استشهدوا في سبيل الله وفي سبيل أن تحيا الجزائر مستقلة، وخمسة منهم كتب الله لهم طول العمر. هو مجاهد أو بالتحديد فدائي بالعاصمة، وإن كانت قصته تجمع بين شجاعة وبسالة المجاهدين الأفذاذ الذين لم يبدلو تبديلا، إلا أنها تحمل الكثير من الفروق والكثير من الخصوصية كون قصته أو مشواره النضالي كان مميزا بأحداثه الفريدة، وبطولاته المجيدة، فقد بدأه قبل الثورة التحريرية بالسويدانية، وناضل داخل الجزائر وحتى خارجا كفرنساوألمانيا، ليعود بعدها إلى أرض الوطن، ودخل غياهب السجون بعد ان حكم عليه بالإعدام، ولحسن حظه لم ينفذ الحكم، وعايش فترة الإعلان عن وقف إطلاق النار ومرحلة الاستقلال ومجابهة المنظمة السرية، وبعدها الانضمام في صفوف الشرطة بهدف التصدي للجريمة والإجرام، استقبلنا "سي علي" ببيته وكان لنا معه هذا الحوار الشيق: "السياسي": في البداية، نود لو تعطينا لمحة صغيرة عن شخصكم، وما هو سر تسميتك أنت وأخوك البكر بنفس الاسم مسعود؟ المجاهد مسعود جديد: اسمي علي، وفي الحقيقة اسمي مسعود، وأخي البكر كذلك اسمه مسعود، وهذا تحايلا على قرار سياسة التجنيد الإجباري التي كانت تفرضها الإدارة الاستعمارية، لأنه في حال القبض على واحد منا يترك الآخر، أسرتنا مكونة من خمسة أفراد، ثلاث ذكور وبنتان، ولدت يوم 28 فيفري 1938، ب "سنتر دينو" السويدانية حاليا، ترعرعت هناك، وتلقيت تعليمي الأول بمسقط رأسي، كان تعليما بسيطا متواضعا، لم أستطع أن أتمَّ دارستي نظرا للفقر المدقع والحرمان الذي سلطه الاستعمار الفرنسي على الأهالي، اضطررت إلى التوقف عن الدراسة والتفرغ لإعانة العائلة ومساعدتها في الحصول على لقمة العيش. الكل يعرف أن الإدارة لاستعمارية سلطت على الشعب الجزائري أبشع الطرق لتجويعه وتفقيره، وكل منه قصته مع الفقر والعوز، حدثنا عن تلك المرحلة؟ والله الإنسان يتأثر أيما تأثر لما يتذكر تلك الأيام الحالكة، وتلك الظروف الصعبة التي عاشتها مشقة الأسر في توفير لقمة العيش، كنا نأكل مما تمنحنا الطبيعة من نباتات وحشائش، حتى الضارة منها، لم يكن لنا ملجأ إلا هذا، إنها أيام الجحيم، فقد مارس الاستعمار الفرنسي أبشع السياسات من أجل تجويع الشعب الجزائري، وانتهج كل الطرق الجهنمية حتى التي لا تخطر على بال بشر وتجرد من إنسانيته، وأصبح وحشا ضارا يغرس مخالبه في جسد كل ما هو جزائري بغية استئصاله والقضاء عليه، ولكن مساعيه تحطمت على صخرة الإرادة والعزيمة الجزائرية، ومحاولاته فشلت أمام إيمان الشعب الجزائري ببلاده ووطنه. ومن شدة الفقر، أذكر تلك الحادثة التي لا زلت عالقة في ذاكرتي، حيث أكلنا لحم الجيفة، فقد اقتطعنا لحما من بقرة ميتة بالزبالة وتم طبخه وأكلناه، لم يكن بيدنا حيلة. كيف بدأ نضالك، وكيف اكتشفت الثورة أو اكتشفتك الثورة؟ لقد كان الوالد رحمه الله واحدا من العناصر الناشطة في حزب الشعب الجزائري، حيث كان يقيم تجمعات واجتماعات ببيتنا بالسويدانية، أذكر انه في سنة 1947 أجريت انتخابات البلدية، وفاز الوالد في تلك الانتخابات وأصبح مستشارا رئيسيا بالبلدية، كنت آنذاك صغيرا ولم يكن يسمح لي الوالد بحضور الاجتماعات، لكني كنت أتنصت خفية من ثقب الباب ما يدور فيها، وكنت أتلقف كلمات وعبارات استثنائية تركت أثرا بليغا في نفسيتي، وزعزعت شعوري وإحساسي، كنت أسمعهم يتحدثون عن الاستقلال والحرية والوطنية والاستعمار، لم أستطع أن أحملها طويلا في صدري، وفي يوم من الأيام سألت الوالد عن معنى تلك الكلمات، فنهرني وقال لي من أين سمعت هاته المصطلحات التي لم تكن في مستوى سني، وخوفا منه صارحته، ولحسن الحظ هدأت نفسية الوالد وراح يقص عليَّ باسترسال قصة الاستعمار وكيف احتل بلدنا، حتى أشبع فضولي من هذا الموضوع، حدثني "أن فرنسا سلبت من أجدادي هذا الوطن العزيز سلبا واغتصبتها غصبا، وهي اليوم تمارس أبشع الطرق لاجتثاث جذوة هذا الشعب الأبي من تفقير وحرمان وتجهيل، ولكنها ستخسأ وعبثا تحاول، فسننتصر عليها مهما طال الزمن، وسنسترجع سيادتنا واستقلالنا وحريتنا مهما عظمت المحن، واشتدت الإحن". كانت تلك العبارات بمثابة شحنة التي ملأت فؤادك وأحاسيسك.. نعم، ومن ذلك اليوم ومنذ تلك اللحظة أصبحت متمردا صغيرا، وساخطا عن كل ما يمت بصلة إلى الإدارة الاستعمارية، كنت أمارس تمردي في المدرسة مع أندادي من أبناء الكولون، وقد نال القسط الوافر من هذا السخط أبناء المعلمة الفرنسية التي كانت تدرسنا، كنت أمارس عليهم اضطهادا نفسيا، أشبعهم ضربا قاسيا، ففي يوم من الأيام استدعتني المعلمة إلى بيتها، وحاولت استرضائي ورشوتي بقطعة خبز وقليل من الشكولاطة وبعض الملابس الأنيقة، لك أن تتصور جزائري يعيش في تلك الظروف الحالكة، يتقوت من الحشيش ويلبس البقشيش يعرضون عليه قطعة خبز وقطعة شوكولاطة وملابس أنيقة، كانت كل هذه الهدايا رشوة لأكف عن تعنيف أبنائها، ولكنها لم تصل إلى مبتغاها. كانت هذه الحادثة من المعارك التي خضتها ضد أبناء الفرنسيين، وهناك حادثة أخرى وهي أنه في يوم من اليوم أعطاني أبي شفرة حلاقة لأنقلها إلى خالي، وفي طريقي التقيت واحدا من أبناء الكولون كان يدرس معي، فتحرك شي من الثأر بداخلي، فاندفعت إليه متحديا إياه للمبارزة، لكنه خاف وارتاب، ولم أمهله طويلا حتى انقضضت عليه كأسد جارح فأسقطته أرضا، وأشبعته ضربا، وأخرجت شفرة الحلاقة التي كانت هدية من أبي لخالي لشفط لحيته، فأردت ان أشفط بها هذا الكولون المستعمر، وهممت بذبحه، ولحسن حظه وتعاسة حظي كان ابن خالي بالقرب من الحادثة فأنقذه من بين يدي. كانت تلك معارك التي خضتها ضد أبناء الكولون، متى بدأت نضالك ومعاركك ضد الكولون أنفسهم؟ في سنة 1953 تحولت إلى بائع جرائد، فقد التقيت بهلول السعيد، الذي كان يبيع جريدة الجزائر الحرة، وقلت له أريد أن أبيع الجرائد، وكان هذا البيع نوعا من النشاط السياسي المحرم في ذلك الوقت، ولما كنت أبدو صغيرا عن تلك المهمة استبقته وقلت له لك أن تجربني في البداية، وفعلا التقينا في يوم أحد، وأخذت الجرائد وتجولت بها في شوارع العاصمة، وقد كان لي التوفيق من الله عز وجل أن بعتها كلها، وعاودت الكرة بالغد وصار، نشاطي اليومي إلى أن أوقفت من قبل أحد الحركى، اسمه حميدو، فغرمني بغرامة قدرها 7 آلاف فرنك فرنسي، ولازلت أحفظ تاريخ الذي وصلني فيه استدعاء من الشرطة الفرنسية، فقد كان ذلك يوم 15 نوفمبر من سنة 1954، وبسبب عدم قدرتي على تسديد المبلغ - ومن أين لي أن أسدده؟- اقتادتني الشرطة إلى المخفر، ومنه إلى سجن بوفاريك حيث قضيت شهرا كاملا، ليتم إطلاق سراحي يوم 15 ديسمبر من نفس السنة وعدت إلى البيت من بوفاريك إلى السويدانية سيرا على الأقدام. عند خروجك من السجن كان وهج الثروة المباركة يشتعل في كافة ربوع الوطن، كيف تلقيت الحدث؟ فعلا، في تلك الأيام كان صدى الثورة يدوي في سماء الجزائر، وكان رصاصها يكدك أركان المستعمر في كل منطقة من مناطق الوطن، بدأت على إثرها الاعتقالات من طرف الإدارة الاستعمارية، فنصحني أبي بمغادرة الحي، فاتخذت الحراش حيث تسكن أختي وجهة لي، وكان أول عمل بدأت به عند وصولي إلى الحراش، هو البحث عن النظام كما كان يسمى آنذاك، البحث عن الثورة وعن أبنائها ومناضليها، كنت أعمل حمالا في سوق الحراش صباحا، وفي المساء أبحث عن النظام، إلى أن وفقني الله والتقيت بواحد من عناصره اسمه كلالة، بدأت النشاط بصفتي مناضلا مبتدءا مكلفا بمهمات معينة كنقل الوثائق أو إجراء اتصالات، وفي سنة 1955 تم تكوين أول فوج فدائي بالحراش، تحت قيادة حميدات البوكسور (الملاكم) وكنت أحد عناصره، كانت مهمته الرئيسية هي تطهير الحي من الخونة. وبعدها كيف تطورت الأوضاع؟ بدأت المهمة وتمكن الفوج تنفيذ العديد من العمليات في صفوف الخونة والشرطة الفرنسية بالمدينة، ولكن عيون الإدارة الفرنسية لم تكن غافلة، حيث في يوم من الأيام من سنة 1956 تم إلقاء القبض على أحد عناصر الفوج، ومورس عليه شتى أنواع التعذيب، فأقر بأسماء العناصر التي كانت تنشط ضمن الفوج، وبدأت الاعتقالات والمداهمات، ولم يكن لي خيار غير الفرار بجلدي، فكانت وجهتي هذه المرة فرنسا، وبالتحديد مدينة ليون حيث يعمل أخي محمد. وصلت فرنسا التي توجهت إليها فارا من جحيم الإدارة الاستعمارية، كيف وجدت فرنسا في ذلك الوقت؟ مكثت عند أخي أياما، وعملت في مطعم بمدينة ليون، ولكن لم أكن مرتاحا لعملي، خاصة بعد انقطاعي عن العمل الثوري الذي كان يسري في عروقي، فرحت أبحث عن النظام وعن جبهة التحرير في فرنسا، ويوما بعد يوم تعرفت على مناضلي جبهة التحرير الوطني، وانخرطت مباشرة في صفوفها، وبدأت النشاط والتحرك في ليون مكان إقامتي وعملي، وفي يوم من الأيام جاءني المدعو بوعلام برسالة وقال لي: "عليك بإيصاليها إلى رئيس بلدية ليون"، ودون تردد ودون أن أعرف ما بداخلها وما تحتويه قبلت المهمة، وحملت الرسالة أخفيها في بعض لوازمي إلى مقر بلدية ليون، لكن لم أجد رئيس البلدية فتركت الرسالة عند السكرتيرة، ولحظات قبل خروجي دخل المير، فتح الرسالة فوجدها تحمل توقيع الفيدرالية الجزائريةبفرنسا ممثلة جبهة التحرير الوطني، وكانت الرسالة كافية بل دليل واضح لأصبح محل بحث من قبل السلطات الفرنسية، فكان عليا ان أجد حلا لهذه المعضلة، وبالتشاور مع أخي قررنا التوجه إلى ألمانيا، وكانت وجهتي مدينة ستراسبورغ، مكثت في المدنية أياما قلائل ورحت أبحث دائما عن عناصر جبهة التحرير الوطني بها حتى التقيت بالمدعو محمد لكحل، وقربني من مسؤول جبهة التحرير بالمدينة، وكانت أول مهمتي هي الذهاب إلى مدينة بشايم، حيث تكثر بها الجالية الجزائرية لتحسيسها وتوعيتها بأهمية العمل الثوري والنضال في صفوف جبهة التحرير الوطني، واجتمعنا بالجالية الجزائرية هناك وخطبت فيهم وكانت خطبة حماسية تفاعل معها أبناء الجزائر أيما تفاعل، ولم يخيبوا ظننا فيهم، فقد قبلوا شروط الجبهة للعمل النضالي من انضباط ودفع الاشتراكات.