هو داود بن عمر الأنطاكي، وبرغم كونه أعمى إلاَّ أنه لقب (بالبصير)، وُلِدَ بفرعة سنة (942ه)، ثم انتقل مع والده إلى مدينة أنطاكية وهو طفل، فنشأ وترعرع وعوفي من كساحه فيها، يلقبونه بالحكيم الماهر الفريد، والطبيب الحاذق الوحيد، أبقراط زمانه. وكعادة العلماء في زمانه كان موسوعيًّا (عالمًا بالطب والأدب، انتهت إليه رئاسة الأطباء في زمانه، حفظ القرآن وقرأ المنطق، والرياضيات، وشيئًا من الطبيعيات، ودرس اللغة اليونانية فأحكمها). يروي ابن العماد صاحب (شذرات الذهب) عنه قصة شفائه من مرض الكساح، الذي كان قد ابتلى به، قوله: (إنه وُلِدَ بأنطاكية بهذا العارض. قال: وقد بلغت سيَّارة النجوم، وأنا لا أستطيع أن أقوم لعارض ريح تحكم في الأعصاب، وكان والدي رئيس قرية حبيب النجار، واتّخذ قرب مزار سيدي حبيب رباطًا للواردين، وبنى فيه حجرات للمجاورين، ورتَّب لها في كل يوم من الطعام ما يحمله إليه بعض الخدام، وكنت أُحْمَلُ إلى الرباط فأقيم فيه سحابة يومي، وإذا برجل من أفاضل العجم يُدعى محمد شريف نزل بالرباط، فلمَّا رآني سأل عني فأُخبر، فاصطنع لي دهنًا، ومددني في حرِّ الشمس ولفَّني في لفافة من فَرقي إلى قدمي، حتى كدتُ أموت، وتكرَّر منه ذلك الفعل مرارًا من غير فاصل، فقمت على قدمي، ثم أقرأني في المنطق، والرياضي، والطبيعي، ثم أفادني اللغة اليونانية). وكعادة طلبة العلم في ذلك الوقت لم يبقَ داود في أنطاكية طويلاً، بل غادرها إلى دمشق لكي يتتلمذ على يد كبار الأطباء هناك، ثم اتجه إلى القاهرة وهناك ذاع صيته في نقده الأمينِ والبنَّاءِ لبعض الكتب الطبية القديمة، فأُسندت إليه رئاسة الأطباء في القاهرة، ثم ذهب إلى مكة لأداء مناسك الحجِّ، فاستقرَّ فيها يمارس مهنة الطب بالتلمس والاستجواب، وظلَّ هكذا إلى أن انتقل إلى رحمة الله عام (1008ه/1600م). إنجازات داود الأنطاكي: لقد أُثِر عن داود الأنطاكي الجد والنشاط وعلو الهمة في طلب العلم، لذلك -وعلى الرغم من كونه ضريرًا- فإن عاهته تلك لم تمنعه من دراسة الطب، بل ولا من التفوق فيه على أقرانه، فقَدَّم الكثير من الإنجازات الطبية، ولكن أهم ما يُذْكَر له هو أنه قام بعرض مؤلفات مَن سبقوه، ونقدها نقدًا أمينًا، ثم اختطَّ لنفسه (احتفظ لنفسه) خطَّة في البحث، قال: إنها تتكوَّن من عشرة قوانين: فكان يذكر الأسماء بالألسن المختلفة، ثم الماهية، ثم الحسن والرديء، ثم ذكر المنافع في سائر أعضاء البدن ثم كيفية التصرف فيه مفردًا أو مع غيره، ثم المضار، ثم ما يصلحه، ثم المقدار، ثم ما يقوم مقامه إذا فقد. وكان أهم ما قدمه داود الأنطاكي هو الزمان الذي يقطع فيه الدواء ويدخر حتى لا يفسد (أو ما نسميه الآن تاريخ الصلاحية)، ثم موطن الدواء، ثم أثر البيئة على فعل الجوهر وآثاره، وقد عرض داود لمئات من الأنواع النباتية وعشرات من أنواع الحيوانات والمعادن مما تتخذ منه عقاقير وأدوية. بالإضافة إلى ذلك قام داود الأنطاكي بوضع عدة قواعد لصناعة الأدوية وطرق العلاج، كما ذكر العديد من الوصفات من الأكحال والأدهان والتراكيب المختلفة، وعلى الرغم من أنه استخدم بعض الوصفات التي كان يستخدمها العامة، والتي لا يُقِرّها الطب، إلاَّ أنه ظلَّ له فضل كبير في هذا المجال، وكتبه ظلَّت مصدرًا لا يمكن الاستغناء عنها في دراسة هذا المجال. وعن هذه الموسوعية يتحدث أحمد بن عيسى فيقول: (الرئيس داود بن عمر الأنطاكي نزيل القاهرة المعزية الشيخ الإمام المميز على مَن له بها المزية، المتوحّد بأنواع الفضائل، والمتفرِّد بعلوم الأوائل، شيخ العلوم الرياضية سيما الفلسفة، والعلوم الحكيمة، وعلم الأبدان القسيم لعلم الأديان، فإنه بلغ فيها الغاية التي لا تُدْرَك، وانتهى منها إلى الرتبة التي لا تكاد تُمْلَك، مع فضل في جميع العلوم ليس لأحد وراءه فضله، وعلم لم يَحْوِ أحدٌ في عصره مثله، وأدب يغضّ منه الناظر، ويحارُ في وصفه الفكر والخاطر... وكانت له خلوة بالمدرسة الظاهرية تجاه البيمارستان يجلس بها نهارًا). قال تلميذه الفاضل الخفاجي في ريحانيته في ترجمته: (ضرير بالفضل بصير، كأنما ينظر إلى خلف ستارة الغيب بعين فكر خبير، لم تر العين مثله بل لم تسمع الآذان، ولم يتحدث بأعجب منه، إذ جس النبض نبضًا لتشخيص مرض أظهر من أعراض الجواهر لكل غرض، فيفتن الأسماع والأبصار، ويطرب بجس النبض ما لا يطربه جسّ الأوتار، يكاد من رقَّة أفكاره يجول بين الدم واللحم، لو غضبت رُوح على جسمها ألف بين الروح والجسم، فسبحان من أطفأ نور بصره وجعل صدره مشكاة نور، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). ولداود بن عمر الأنطاكي عجائب في معرفته للنبض؛ فإنه كان يمارس الطب بالتلمُّس، وعن هذا يقول أحمد بن عيسى: (أما معرفته لأقسام النبض فإن له مَنْقَبة باهرة، وكرامة على صدق مدعاه ظاهرة، يكاد لقوة حدسه يستشفّ الداء من وراء حجابه، ويناجيه بظاهر علاماته وأسبابه، حُكِيَ أن الشريف حسن لما إجْتمع به أمر بعض إخوانه أن يعطيه يده ليجسَّ نبضه، وقال له: جسَّ نبضي. فقال له: هذه اليد ليست يد الملك. فأعطاه الأخ الثاني يده. فقال كذلك، فأعطاها الشريف حسن يده، فقَبَّلَها، وأخبر كلاًّ بما هو ملتبس به، فتعجَّبُوا من حذقه، وحُكِيَ أنه استدعاه لبعض نسائه، فلما دخل قادته جارية، ولما خرجت به قال للشريف حسن: إن الجارية لما دخلت بي كانت بكرًا، ولما خرجت بي صارت ثيبًا. فسألها الشريف حسن وأعطاها الأمان من المعاقبة، فأخبرته أن فلانًا استفضَّها قسرًا، فسأله فاعترف بذلك). وعن أخلاقه وخشيته وعلمه يقول ابن العماد: (وكانت فيه دعابة، وحسن سجايا، وكرم، وخوف من المعاد، وخشية من الله، كان يقوم الليل إلاَّ قليلاً، ويتبتَّل إلى ربه تبتيلاً، وكان إذا سُئل عن شيء من العلوم الحكمية والطبيعية والرياضية أملى ما يُدهش العقل، بحيث يُجيب على السؤال الواحد بنحو الكراسة، ومن مصنفاته التذكرة جمع فيها الطب والحكمة، ثم اختصرها في مجلدة، وشرح قصيدة النفس لإبْن سينا شرحًا حافلاً نفيسًا). * مؤلفات داود الأنطاكي لقد كان لداود الأنطاكي العديد من المؤلفات الطبية التي أصبحت بمثابة مرجع مهمّ يعتمد عليه طلاب العلم في دراسة علم الطب؛ ومنها على سبيل المثال: كتاب (كفاية المحتاج في علم العلاج) الذي يعتبر من أبرز الكتب الطبية التي خرجت في ذلك الوقت؛ حيث وضح فيه رأيه حول المؤلفات الطبية القديمة المعروفة بين الناس في تلك الفترة، فكان ناقدًا لتلك الكتب، مع تحاشي التجريح بقدر الإمكان، لأنه يؤمن بالنقد البنَّاء. أمَّا أهم ما يميز ذلك الكتاب أنه جمع فيه الأفكار المنقحة لمن سبقه من الأطباء الأوائل؛ لذلك أصبح هذا الكتاب مرجعًا مهمًّا لكل طلاب العلوم الطبية، كما أن داود الأنطاكي جمع في هذا الكتاب بين معرفته الفلسفية والطبية، ويتَّضح ذلك من خلال طريقة عرضه لبعض النظريات الطبية ولدقَّة ولحسن تنسيقه وتبويبه لهذا الكتاب. ولم تقتصر جهود داود الأنطاكي في التأليف على هذا الكتاب فقط بل ألَّف الكثير من الكتب الأخرى منها: - الكامل في الطب. - تذكرة النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة. - كتاب حجر الفلاسفة. - كتاب استعمال التنجيم في الطب. - كتاب البهجة والدرة المنتخبة فيما صح من الأدوية المجربة. - كتاب نزهة الأذهان في إصلاح الأبدان. - كتاب ألفية في الطب. - كتاب شرح عينية ابن الملكي في طب الملوك. - كتاب مجمع المنافع البدنية. - كتاب زينة الطروس في أحكام العقول والنفوس، وغيرها من المؤلفات. * أقوال داود الأنطاكي كانت لداود الأنطاكي بعض الأقوال التي كانت نتاجًا لخبرته العلمية بهذا المجال؛ منها على سبيل المثال: قوله في طلب العلم: عار على مَن وُهب النطق والتميز أن يطلب رتبة دون الرتبة القصوى. ويقول: كفى بالعلم شرفًا أن كلاًّ يدعيه، وبالجهل ضعة أن الكل يتبرأ منه، والإنسان إنسان بالقوة إذا لم يعلم، فإذا علم كان إنسانًا بالفعل. وهو هنا يُكَرِّر قولة المتنبي من قبل: (وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا *** كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ). ثم يؤكد على أن الإنسان لا يُحَقِّق إنسانيته إلاَّ بالعلم وباستعمال هذا العقل؛ ولأننا أمام موسوعي فيلسوف، فسنقرأ له إفادة جاء فيها بخبرة التاريخ ثم خبرة التجربة الحاضرة، فيحكي قائلاً: (إنه كان من علوم الملوك، يتوارث منهم، ولم يخرج عنهم خوفًا على مرتبته، وقد عوتب أبقراط في بذله للأغراب، فقال: رأيت حاجة الناس إليه عامة والنظام متوقف عليه، وخشيت انقراض آل أسفيموس، ففعلت ما فعلت). ثم يضيف داود قائلاً: لقد وقع لنا مثل هذا؛ فإني حين دخلت مصر، ورأيت الفقيه الذي هو مرجع الأمور الدينية، يمشي إلى أوضع يهودي للتطبب، فعزمت على أن أجعله كسائر العلوم، يُدرس ليستفيد به المسلمون، فكان ذلك وبالي ونكد نفسي وعدم راحتي من سفهاء لازموني قليلاً، ثم تعاطوا الطب؛ فضرُّوا الناس في أموالهم وأبدانهم وأنكروا الإنتفاع بي. ثم يعطي خلاصة تجربته فيما يبدو بخصوص الطب والطبيب، وهي نصيحة خالدة كأنها تشريح يصف متى وكيف يفسد الطبيب: ينبغي لهذه الصناعة الإجلال والتعظيم والخضوع لمتعاطيها لينصح في بذلها، وينبغي تنزيهه عن الأرذال، والضنِّ به على ساقطي الهمة؛ لئلاَّ تدركهم الرذالة عند واقع في التلف فيمتنعون، أو فقير عاجز فيكلفونه ما ليس في قدرته. وإذا تجاوزنا الطب سنراه يقسم العلوم والمعارف إلى أقسام، عرفها وسمَّاها، وحدَّد مدلولاتها، فلم يترك الكيمياء، أو الفلك، أو الرياضة، أو الفقه، أو المنطق إلاَّ وقد رسم حدوده، وبَيَّنَ أغراضه ومراميه. ثم إذا تجاوزنا طب الأبدان سنجده في مقام طب النفوس يقول: - عليك بحسن الخلق، بحيث تسع الناس، ولا تُعَظِّم مرضًا عند صاحبه. - ولا تُسِرَّ لأحد عن مريض، ولا تحبس نبضًا وأنت معبس، ولا تخبر بمكروه. - ولا تطلب بأجر، وقَدِّم نفع الناس على نفعك، واستفرغ لمن ألقى إليك زمامه ما في وسعه، فإن ضيعته فأنت ضائع. ونتيجة لتلك الإنجازات التي قام بها داود الأنطاكي حصل على شهرة واسعة بين معاصريه، وأصبحت كتبه وأبحاثه مصدرًا للباحثين في مجال العلوم الطبية.