في رواية مالك عن عروة قال: لما ولى أبوبكر خطب الناس فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني وقد وليت أمركم ولست بخيركم ولكنه نزل القرآن، وسن النبي صلى الله عليه وسلم السنن، وعلمنا، فاعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس: التقى، وأعجز العجز الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى أخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى حتى آخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإذا أحسنت فأعينوني، وإن أنا زغت فقوموني أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم. قال مالك: لا يكون أحد إمامًا أبدًا إلا على هذا الشرط. - عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: لما قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلمارتجت مكة، فسمع أبو قحافة ذلك، فقال: ماهذا؟ قالوا: قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: أمر جلل فمن قام بالأمر بعده، قالوا: ابنك، قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت. - عن عائشة، وابن عمر، وسعيد بن المسيب وغيرهم رضي اللّه عنهم، أن أبابكر بويع يوم قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة إحدى عشرة من الهجرة. - عن ابن عمر قال: لم يجلس أبوبكر الصديق في مجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المنبر حتى لقي اللّه، ولم يجلس عمر في مجلس أبي بكر حتى لقي اللّه، ولم يجلس عثمان في مجلس عمر حتى لقي اللّه. فصل فيما وقع في خلافته - عن عائشة رضي اللّه عنها: قالت: لما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبى لهاضها فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبى بفنائها وفضلها، قالوا: أين يدفن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبوبكر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه)، قالت: واختلفوا في ميراثه فما وجدوا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبوبكر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة). - قال بعض العلماء: وهذا أول اختلاف وقع بين الصحابة رضي اللّه عنهم، فقال بعضهم: ندفنه بمكة بلده التي ولد بها، وقال آخرون: بل بمسجده، وقال آخرون: بل بالبقيع، وقال آخرون: بل في بيت المقدس مدفن الأنبياء، حتى أخبرهم أبوبكر بما عنده من العلم. - قال الذهبي: لما اشتهرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالنواحي ارتدت طوائف كثيرة من العرب عن الإسلام، ومنعوا الزكاة، فنهض أبوبكر الصديق لقتالهم، فأشار عليه عمر وغيره أن يفترس عن قتالهم، فقال: واللّه لو منعوني عقالاً أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابه على اللّه)، فقال أبوبكر: واللّه لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: (قال عمر: فواللّه ماهو إلا أن رأيت اللّه شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق). - وعن عروة قال: خرج أبوبكر في المهاجرين والأنصار حتى بلغ (نقعًا) حذاء نجد وهربت الأعراب بذراريهم، فكلم الناس أبابكر، وقالوا: ارجع الى المدينة وإلى الذرية والنساء وأمر رجلا على الجيش، ولم يزالوا به حتى رجع، وأمر خالد بن الوليد، وقال له: إذا أسلموا وأعطوا الصدقة، فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع، ورجع أبوبكر الى المدينة. - عن ابن عمر قال: لما برز أبوبكر واستوى على راحلته أخذ على ابن أبي طالب بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول اللّه؟ أقول لك ما قال لك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد: (شم سيفك)، ولا تفجعنا بنفسك، وارجع الى المدينة، فواللّه لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا. - وعن حنظلة بن علي الليثي: أن أبابكر بعث خالدًا وأمره أن يقاتل الناس على خمس من ترك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعًا: على شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وسار خالد ومن معه في جمادي الآخرة، فقاتل بني أسد، وغطفان وقتل من قتل وأسر من أسر ورجع الباقون الى الإسلام، واستشهد بهذه الوقعة من الصحابة عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم. وفي رمضان من هذه السنة ماتت فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سيدة نساء العالمين وعمرها أربع وعشرون سنة. - قال الذهبي: وليس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نسب إلا منها، فإن عقب ابنته زينب انقرضوا، قاله الزبير بن بكار وماتت قبلها بشهر أم أيمن. وفي شوال مات عبد اللّه بن أبي بكر الصديق. ثم سار خالد بجموعه الى اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب في أواخر العام، والتقى الجمعان، ودام الحصار أيامًا، ثم قتل الكذاب لعنه اللّه، قتله وحشي قاتل حمزة. وفي سنة اثنتي عشرة بعث الصديق العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وكانوا قد ارتدوا، فالْتقوا بجواثى، فنصر المسلمون، وبعث عكرمة بن أبى جهل الى عمان، وكانوا قد ارتدوا، وبعث المهاجر بن أبي أمية إلى أهل النجير، وكانوا قد ارتدوا وبعث زياد بن لبيد الأنصاري إلى طائفة من المرتدة، وفيها مات أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والصعب بن جثامة الليثي، وأبو مرثد الغنوي، وفيها بعد فراغ قتال أهل الردة بعث الصديق خالد بن الوليد، إلى أرض البصرة فغزا الأبلة فافتتحها، وافتتح مدائن كسرى التي بالعراق صلحا وحربًا، وفيها أقام الحج أبوبكر الصديق، ثم رجع فبعث عمرو ابن العاص والجنود إلى الشام، فكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، ونصر المسلمون وبشِّر بها أبوبكر وهو بآخر رمق، واستشهد بها عكرمة بن أبي جهل، وهشام بن العاصي، في طائفة، وفيها كانت وقعة مرج الصفر، وهزم المشركون، وستشهد بها الفضل بن العباس في طائفة.