إنّ مما يؤثر على العبادة المشقة، فالأجر المترتب على العبادة يزداد بازدياد المشقة الطارئة على العمل غير المقصودة لذاتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في الحج: »أجرك على قدر نَصَبك« أي تعبك، وكما رُتّب لقارئ القرآن المتعتع فيه وهو عليه شاق أجران. وإن من الأعمال التي تصيبها مشاق عارضة، الصيام في أزمنة الصيف الشديدة الحر، حيث يطول نهارها، ويقصر ليلها، ويكثر ظمؤها، ولهذا كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يتأسف عند موته على ما يفوت من ظمأ الهواجر، وكذلك غيره من السلف، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يفطر في الشتاء، ويصوم في الصيف. ووصى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه عبد الله بخصال الإيمان، وذكر أولها الصوم في شدة الحر في الصيف. وقال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحر الشديد، فقيل له: ما حملها على هذا؟ قال: كانت تبادر الموت. قال ابن رجب في اللطائف: كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حراً فتصومه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد، تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس، لشدته عليهم، وهذا من علو الهمة. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: »صوموا يوماً شديداً حرّه لحرّ يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور«. وثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: »لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر، وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة«. هؤلاء هم سلفنا الصالح، يبادرون إلى الطاعات، يسارعون إلى جنة عرضها السماوات والأرض، بصيام النفل في زمن المشاق. فأما إذا كان الصيام صيام فرض، وصاحَبَه الإخلاص وحسن العمل والاحتساب، وابتعد عن الرياء والشكوى، كان الأجر أكبر، قال صلى الله عليه وسلم: »من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه« (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: »قال الله تعالى: ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه«. ولما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش والظمأ، أفرد لهم باباً من أبواب الجنة، وهو باب الريان، من دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ بعدها أبداً، فإذا دخلوا أغلق على من بعدهم فلا يدخله غيرهم، هذه أولى فوائد اجتماع الصيف برمضان، أعني »عظم الثواب والأجر«. وثاني الفوائد: أن شدة الحر تدفع العبد إلى اللجوء إلى مولاه، والتوبة إليه من كل ذنب، وذلك عندما يتذكر حرارة النار، بعد أن آذته حرارة الصيف، فإنّ شدة الحرّ من فيح جهنم كما جاء في الحديث المتفق على صحته. وإن تذكر الآخرة عند حوادث الدنيا من الإيمان. دخل أبو هريرة رضي الله عنه الحمام فقال: نعم البيت الحمام يدخله المؤمن فيزيل به الدرن، ويستعيذ بالله فيه من النار. وصبّ بعض الصالحين على رأسه ماءً من الحمام فوجده حاراً فبكى، وقال: تذكرت قوله تعالى: »يُصَبّ مِنْ فَوْقِ رُؤِوسِهِمُ الحَمِيْمُ«. وحرّ الصيف ونار الدنيا جنة عند نار الآخرة ولظاها، قال بعض السلف: »لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا، لقالوا فيها ألفي عام« يعني أنهم سيرونها باردة. وإذا استشعر العبد هذا كله وتأمل فيه وسرق فكره ولبه، زاد إيمانه، وإذا زاد إيمان العبد اعترف بجرمه وتقصيره، وزاد إقباله على ربه، فأكثر من العبادة في هذا الشهر الفضيل، فكسب عملاً وافراً كثيراً، في زمن تضاعف فيه الحسنات، وانكب على الله طالباً التوبة والعفو والصفح والغفران، وتحرى أوقات الإجابة في شهر تكثر فيه، فإذا قبلت التوبة أصلح الله شأنه كله، وسائر أيام دهره. فتبين أن شدة الحر في رمضان رحمة للمؤمن إلا من أبى. أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ممن أحسن العمل والقصد، وجنى من الدنيا خير زاد ليوم المعاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.